علم النفس التطوّري
- Saif Al Basri
- 1. Feb. 2013
- 11 Min. Lesezeit
يالها من امرأة جميلة، يالَهاتينِ الشفتينِ، و يالَ هذه الأنوثة الساحِرة. خُصرِها النحيف، و جسدها الرشيق … نعم إنها بالفِعل مُناسِبة لِحمل جيناتي. لابُد و أن هذا الجَسد مليء بالأستروجين¹ … لاشَكّ أن جيناتها مُناسِبة و صِحيّة.
لا أحد منا يُفكّر بهذه الطريقة بصورة واعية عِندما تَمُر من أمامهِ امرأة فاتِنة أو رَجل وسيم. لكن اللاوَعي في داخِلنا أو الغريزة التطوّرية تدفعنا للتَفكير تماماً بهذهِ الطريقة.
حقيقة أننا بشر نتصرّف أحياناً بصورة غير منطّقية أو غريبة أو حتى تصرفاتنا الإعتيادية، لها علاقة بطبيعتنا البيولوجية، بغض النظر عن شخصيتنا. هذا الشيء مكتوب في جيناتنا - وهذا الكائن الإنساني - الذي طوّرته قوى الطبيعة، مثل كل الكائنات الحية الأخرى - يأتي إلى هذا العالَم وفي دماغهِ برامج مُصممة مُسبقاً. عِلم النفس التطوري يفترض أن الحالة النفسية للإنسان لا تعتمد فقط على تجارب الشخص، بل أيضاً على تفضيلات أو برمجات معينة لها جذورها الجينية أنطبعت عبر ملايين من السنين لديه. و بعض هذه التفضيلات أو لنُسمّها البرامج التطورية، قد ضمنت الاستمرار في نجاح الإنجابية حتى يومنا هذا.
فكل واحد منا هو سليل لأجداد تمكنوا بنجاح من الإنجاب و الاستمرار، و إلا لما كنا اليوم على قيد الحياة.
عِلم النفس التطوري - عِلم جديد نسبياً - يحاول من خلال الدِقة العلمية فك شفرة العَقل البشري والكشف عن القِوى التي »طوّرته«.
لكن كيف؟ و لماذا بهذه الطريقة؟ الجواب على هذا السؤال يتناوله عِلم النفس التطوري. لكن كيف تطوّر هذا العِلم و كيف نشأ؟
لنذهب في رحلة عبر الزمن إلى الوراء. فنحن البشر لدينا قصة قديمة في مملكة الحيوانات. قُصة فريدةٌ من نوعها ولِدت من خلال المؤانسة و التعقيد الإجتماعي التدريجي الذي شَهدهُ أجدادنا القُدماء. حَل النِزاعات كان في البداية نُقطة الإنطلاق، تلتها مُشاطرة الشُعور و الإنصاف. هذه النقلة الجوهرية من الحيوان الاجتماعي إلى الحيوان الأخلاقي مرّت بِخطوات صغيرة وعلى أمدٍ طويل مكّنَت هذا التعقيد الإجتماعي و الصِفة الإستثنائية التي تُميّزنا عن بقية الحيوانات. و بالتالي دِراستنا لسلوك ِ القِردة العُليا هو لكي نَكتَشِف جُذور الأخلاق الموضوعية في داخِلنا.
التعاون، الامتنان، الشُعور بالانتماء للمجموعةِ و العلاقة القُطبية بين الذَكَر و الأُنثى، كُلها سلوكيّات لها جذورِها التَطوّرية التي مرّت بمراحِل طويلة عَبر الزمن، و التي نستطيع حتى الآن تَتبُّع آثار خطواتِها. وبالتَحديد عزيزي القارئ هذا هو جَوهر البُحوث العِلمية التي يتناولُها عِلم النفس التَطوّري، البحث عن هذه الآثار و دراسة انعكاسات هذه التَطوّرات على سلوكِنا الأخلاقي، الاجتماعي و الجِنسي.
الطبيعة الحيوانية و البَشرية بالتَحديد هي نتيجة تَبَلوَرت عن تَطوّرات و ظُروف و أحداث سبّبت تغيّرات جذرية في طبيعتنا و سلوكياتنا، جعلتنا كما نَحنُ عليه اليوم. هذه التغيّرات بالطَبع لها جُذورِها البايولوجية التَطوّرية التي تَمتَد من البُعد الإجتماعي و الحياة اليومية و حتى البُعد الجيني، المَصنَع البايولوجي المسؤول عن هذه التَطوّرات و تَرجمة التجارُب و الأحداث و إنعكاسات الظُروف التي يَمُرّ بها الكائِن الحَيّ إلى لُغة الجينات و إختيار الصِفات اللازِمة للتأقلُم و الكٍفاح من أجل البَقاء عن طريق الإنتِخاب الطبيعي² و هذهِ الصِفات بدورِها يَتِم تَوريثها للأجيال اللاحِقة³.
إذا لكي نَفهم الخلفية للمَنهج العِلمي الذي يُفسِّر هذهِ التَطوّرات التي تَطرأ على الكائِن، علينا أن نَعي أولاً أننا كائِنات تَتَطوّر بإستمرار. هذه التَطوّرات تحتاج غالِباً إلى عشرات آلاف السنين أو أكثر، و أن طبيعتنا البايولوجية و نفسيّتنا الإجتماعية و السُلوك البّشري بصورة عامة هو نتيجة تَطوّرية لظروف و أحداث تَمخّضت عنها تطوّرات طرأت على أجدادِنا مُنذ القِدم و هي مُستّمِرّة بِبُطئ مُنذ ملايين السنين و حتى هذهِ اللَحظة التي تقرأ فيها عزيزي القارئ هذه السُطور، و لن تَتوقّف!
بالتأكيد هذا ليسَ مُجرّد تَخمين، لإننا نستطيع تَتبُّع آلية هذه التغيّرات جينياً و فيسيولوجياً.
فقط في الجينوم البشري هناك ما يزيد عن ٩٨٪ من الجينات التي لاتَشترك في الوظائف الجوهرية في صِنع البروتينات و أداء الوظائف البقية. جينات مُعطّلة لم نستَطِع حتى اللحظة إيجاد تفسيراً أو دوراً وظيفيّاً لها. هذه الجينات تَعطّلت و تراكَمت نتيجة الإنتخاب الطبيعي، و الاخطاء الجينية التي تَحدث نتيجة النَسخ المُتكرر للحمض النووي، الشيء الذي يَعكِس الظُروف البيئية و الإجتماعية التي ولّدت هذه التغيّرات من أجل الإنسجام و التأقلُم مع الظروف و مُلائمة المُحيطين، البيئي و الإجتماعي و التغيّرات التي تطرأ على هذين المُحيطين أيضاً.
لكي أضع النقاط على الحُروف: سُلوكياتنا، رَغَباتِنا، تَوجّهاتِنا الجنسية، إهتماماتنا، إنجذابنا لصِفات مُعيّنة عِند الذَكَر و الأُنثى وحتى أخلاقياتنا هي نتيجة لتاريخ مليئ بتغيّرات و تَطوّرات كان لابُدّ منها للاستمرار في البَقاء. في نفس الوقت تَحتاج هذه التَطوّرات إلى وقتٍ طويلٍ نسبياً لو قارنّاه مع مُتوسِّط عُمر الإنسان، ولذلك من الصَعب علينا جداً أن نَستَوعِب هذه المُدّة. بكُل بَساطة لأن هذه الصِفات الجديدة و التغيّرات تَحتاج إلى أجيال لكي تَسود و تَستَقِر. و بما أننا نَعيش ثورة فكرية، إقتصادية و تِقَنيّة مُتَسارِعة في القُرون الأخيرة التي مَضت، يزداد أيضاً التعقيد الإجتماعي بصورة طردية، و لذلك نَستَبِق الوقت التَطوّري المطلوب لمُلائَمة الظُروف الآنية، الشيء الذي يَجعلنا رهنة للضُغوط النَفسية و التي يُعاني منها المليارات من بنو جِنسنا. فنحنُ مازلنا نحمِل طبيعة نفسية و بايولوجية قَديمة مُحمّلة بآثار الماضي، و عِلم النَفس التَطوّري يوضّح لنا لماذا و كيف و الأسباب التي جعلتنا كما نحنُ عليه اليوم و الجُذور التَطوّرية و السايكولوجية لهذه الآثار المُتجسّدة في سلوكياتنا. أي أننا نَسرِد قصة عِلم النَفس بلهجة تَطوّرية!
لقد شرحنا الفِكرة الجوهرية لعِلم النفس التَطوّري و وضّحنا الأسباب التي دفَعت بالعُلماء لإلقاء نظرة على نفسيّتنا و طبيعتنا البشرية من الجانب التَطوّري. الآن لنُناقِش بهدوء و بصورة نَقدية الآلية العِلمية و التجارب التي يَستنِد عليها عُلماء النفس التَطوّري في مُراعاة المنهاج العِلمي الصارِم في البَحث و الإستنتاج.
أغلب التجارب و الإستنتاجات تَنبع من المُلاحظة و الإستدلال عن الأسباب و الدوافِع للأحداث و التصرّفات التي تُثير إنتباه الباحثين.
هذه الرغبة و هذا الفُضول دفعا عالِم النفس التَطوّري الأمريكي جيفري ميلر لمُراقبة السُلوك الجنسي و الإقتطاب بين الجنسين. ففي كتابه »التطوّر الجنسي⁴« يَسرد حادثة قادت به إلى مُلاحظة سلوك مُعيّن لم يَكن قد تم تحليله من قبل. أثناء وجوده في إحدى النوادي الليلية في ولاية نيوميكسيكو، يَصِف ميلر جانباً من الحياة الليلية. و هو بصُحبة أصدقائه في ظل أجواء صاخِبة بين دخان السجائر و موسيقى الراب و الراقِصات الحَسناوات. رجال و نِساء من مُختَلَف الأعمار كانوا مُتواجدين. هناك من يَحتسي شرابه ويتحاور مع صاحِبه و هُناك من يدفع مبلغاً مُعيّناً ليُشاطِر رقصة إغرائية مع إحدى الراقصات الإستعراضيات و هنا تحديداً لاحظ ميلر شيئاً أثار إنتباهه. فعادةً عندما تنتهي الرقصة التي غالباً ما يكون طولها بطول أغنية كامِلة (٣-٤ دقائق) يُعطي الرجل مبلغاً يتراوح قدره مابين الـ ١٠ دولارات و احياناً أكثر (يصل للمئات). لكن لماذا يدفع الرجال أحياناً مبلغاً عالياً، و أحياناً أخرى فقط ١٠ دولارات لا أكثر؟
ميلر لم يَتحمّل هذا الفُضول و بدأ بدراسة بِمُشاركة عُلماء نَفس آخرين في جامعة نيوميكسيكو في الولايات المُتّحدة، حيثُ قام بمراقبة حياة العَمل اليومية لـ ١٨ راقِصة و لمدة ٦٠ يوماً مُدوّناً في نفس الوقت أوقات دورتهنْ الشهرية على مدار الشهرين. وكما توقّع ميلر كانت النتيجة مُذهلة. فقد وجد أن الرجال يكونون سخيّين جداً عندما تكون الراقِصة التي تَرقص بين أحضانِهم في مرحلتها الخَصِبة، حيث أن في أيام الخُصوبة العالية كانت الراقِصة الواحدة تحصل على متوسّط مبلغ ٣٣٥ دولاراً في فترة عمل ٥ساعات، في حين كان المُعدّل خلال فترة الحيض لم يتجاوز الـ ١٨٥ دولاراً! ماهي الآلية العصبية و الكيميائية التي نَقلت هذه المعلومات إلى الرجال، مازالت محلَ جدلٍ، لكن الثابت الوحيد هو أن هناك علاقة بين فترة خصوبة المرأة و بين سلوك الرجل!
المال هو تعبير عن السُلطة و عن الجاه، و الصِراع على الأنثى لم ينتهي حتى و أن تغيّرت الأساليب و السلوكيات التي تُعبّر عن القوة و الجينات السليمة، إنها طريقة للتعبير عن الخُصوبة الجينية و القوة التي يملكها هذا الرجل السَخي الذي بصورة لاواعية يُحاول جذب إنتباهها و الفوز بفرصة تُمكّنه من نَشر جيناته. بالطَبع الأغلبية الساحقة لاتُفكّر بهذه الطريقة، لان هذه الدوافع موروثة و قد لاتَتناسب مع الوعي الإنساني الحالي، لكن هذا الشيء لايَعني انها غير فعّالة، نحنُ فقط لاندركها بصورة واعية. و لربما سيخطر السؤال التالي في بالك عزيزي القارئ، لماذا المال بالتحديد؟ و هل المال الوسيلة الوحيدة؟
الجواب على هذا السؤال ليس بذلك التَعقيد. الصِراع من أجل الأنثى و التَعبير لها عن القوة و القُدرة على حِمايتها و حماية صِغارها، جُذوره مُشفّرة في جيناتنا، و هذا الشيء مازال حتى هذه اللحظة، نحنُ فقط نُعبّر بأساليب و وسائل تختلف عن تِلك التي أستخدمها أجدادنا.
فالتَطوّر الإجتماعي و التعقيد المُستمر الذي صاحبه في العلاقات الإجتماعية في ظل أنظمة إقتصادية إستهلاكية، كل هذه الظُروف و المُعطيات غيّرت من أساليبنا و وسائلنا في التَعبير و إستعراض الذات.
فنحنُ نعيش في عالم مُتحضّر الرجلُ فيه ليس مُجبراً على صيد ماموث كبير أو قتل حيوان ضاري للتعبير عن قوته و صِحة جيناته. أضف إلى ذلك أن العلاقات العاطفية التي تربط الرجل و المرأة أصبحت أكثر تعقيداً و أعمق من أن يُختَصر الرَفض أو القُبول على عِدة تصرّفات.
داڤيد پرشت، كاتِب و فيلسوف ألماني مُعاصِر يتميّز باهتمامه في المزج بين الفلسفة و العِلم، وصَف هذا التغيّر في الأسلوب بطريقة مُناسِبة جداً، على حد تعبيره نحنُ الآن نعيش في مُجتمعات إستهلاكية، فيها نَستَعرِض إمكاناتنا من خلال المُنتجات التي نَقتنيها. الأكل الصِحي الذي نهتم به، الملابس الراقية التي نرتديها، الهواتف الذكية الباهضة الثمن التي نستخدمها، السيّارات الحديثة التي نسوقها و الهوايات التي نُمارسها، كل ذلك لنَعكِس صورة عن ذواتنا، عن إهتماماتنا و شعورنا بالراحة في الإنتماء لجِهة أو مجموعة مُعيّنة، الشيء الذي يُميّزنا عن الآخرين. فنحنُ البَشر نشأنا و تطوّرنا في فئات و تجمّعات صغيرة كانت فيها السُمعة و المَكانة مُهمتيّن جداً. هذا التُراث يَنعَكِس اليوم من خِلال القوّة الشِرائية، فالكثير من المُنتَجات هي في المقام الأوّل »إشارات« و في المَقام الثاني أدوات للإستخدام!
من الابحاث المُثيرة للإهتمام و التي تَدخُل ضمن إطار عِلم النفس التَطوّري، بحث دام ثلاث ونصف الأشهر قام به كُل من دان أريلي، علي هورتاچسو و گُنتر هيتش⁵. البَحث كان بعنوان »مالذي يجعلك تَنقر« دراسة تحليلية تَجريبية حول التَعارُف عن طريق الإنترنت⁶.
هدف البحث الجوهري هو دراسة كيفية تَفاعُل الرَجُل مع المراة في عالم التعارُف الرَقمي. نتيجة البَحث كانت مُتوقّعة و مُتوافِقة مع الدراسات و الفرَضيّات السابِقة التي قدّمها عِلم النفس التَطوّري. حيثُ بمساعدة إحدى الصَفَحات المَرموقة للتَعارُف في الولايات المُتّحِدة تم تَحليل كُل وسائل و نتائِج المُراسلات المُتبادَلة و المَعلومات الشَخصية، كالطول، الوزن، الصورة الشخصية، مواصفات المَظهر الخارجي، الوظيفة، التحصيل الدِراسي و الحالة المادية (معلومات الأشخاص الشخصية كالأسم و العنوان لم تَكُن مُتاحة حِفاظاً على حُقوق معلومات المُستَخدِم).
النتائِج تَمخّضَت عن دراسة إحصائية مُتكامِلة، سأُحاول أن اختَصِر نتائِجها قّدر الإمكان. قبل ذلك لابُد من ذِكر أن مُعدّل الأعمار للمُستَخدمين تراوح مابين ال٢٠ـ٣٠ سنة، و أن أعداد الذُكور كانت بفارق قليل أكثر من النِساء.
سواء ذكور أو إناث، يكون الإختيار و التَقارُب من الأشخاص ذات الجاذبية العالية بغض النظر عن مُستوى الجاذبية الذاتي. الطول و الوزن يلعبانِ دوراً مُهماً في الإختيار، كما أن النِساء يُفضِّلنْ الرجال ذو الدخل العالي، حيثُ أن الحالة المادية تَلعبُ دوراً لافتاً في الإختيار. هذا التَفضيل لم يَكُن مَلحوظاً عِند الرجال. لأن هذا الشيء يَعكِس فوّة و قدرة الرَجُل على توفير بيئة مُناسِبة و مُريحة للمرأة و صِغارها في المُستَقبل.
من النتائِج أيضاً أن هناك تبايُناً واضِحاً بين تقييم الرَجُل و المراة للتَحصيل الدراسي للشريك المُحتَمل. فالرِجال لديهم نُفور قوي من النِساء ذوات التَحصيل الأكاديمي الأعلى، في حين النِساء يُحاولنْ قَدر الإمكان تَجنّب الرجال ذوي التحصيل الأدنى، لكن ليس بنفس نِسبة النُفور عند الرجال.
بصورة عامة، الصَفَحات التَعارُفية في الإنترنت مُفضّلة عند الطبقات المُثقّفة و ذات الدخل العالي نسبياً مُقارنةً مع مُتوسّط الدخل العام. إضافة إلى ذلك، النِساء بصورة عامة أكثر إنتقائية من الرِجال، الشيء الذي يَتَناسب مع نظرية الإستثمار الجنسي لديڤد باس⁷. كما أن المراة أكثر تحيّزاً و ميولاً للرِجال من نَفس العِرق.
مِثل هذه الدراسات تؤكّد الكثير من النظريات النفسـتطوّرية التي سَبق و أن طرحناها في البداية. عِلماً ان هذه النتائج قد تم لاحِقاً تأكيدها من خلال دراسات مُماثِلة في سنوات الخَمس الأخيرة.
إنه نضال من أجل المَكانة و الحالة الإجتماعية. يُمكِنُكَ عزيزي القارئ أن تتخيّله كمسرح إستعراضي، أو إن صَح التَعبير، كمزاد نَستَعرِض فيه ذواتنا و نُروّج فيه لصورتنا بمبلغٍ عالٍ قدر الإمكان. هذا النِضال في ظل المُجتمعات الإستهلاكية الحديثة جعلنا مُدمنين على الحُصول على الأكثر، على الأجدد، الأحدث، و الأندر. إننا بكُل بَساطة نَخلِق من نفسياتنا أفضل وقوداً لازِماً لإستمرار شُعلة الإقتصاد الإستهلاكي. فنحنُ لانملك تصوّراً مُطلقاً عن الحد الأمثل الذي يُمكن أن نَصِل إليه، لاننا بِكُل بساطة نُقارِن بأستمرار مع مُحيطنا، مع الجار، مع زميل العمل، مع الصديق و مع الأخ و قياساتنا تَتغيّر بإستمرار. هذهِ المُقارنة كانت، ومازالت جزءاً مُهمّاً من الصِراع التَطوّري.
رغبتنا في الحُصول على الأفضل و الأحدث و الأجدد، هي لإنها في المَقام الأول الألوان التي نرسم بواسِطتها ملامِح الصورة التي نَوَدْ أن نُعبّر فيها عن ذواتِنا (جيناتِنا). الصورة التي نَوَدْ أن يراها المُقابل و هي تَنعَكِس من خلاله. القُدرة و الجاه الذي نَملكه!
لعلّنا لو ألقينا نظرة على واقِع المُجتمع العراقي و الخليجي بصورة عامة، سنجِد أن السيارةَ الحديثة، الجِهاز النقّال الحديث و المُجوّهرات لها أهمية كبيرة جداً، رُغم أنها أشياءُ ثانوية مُقارنةً مع مُتَطلّبات الحياة المُعاصِرة الضرورية.
قبل فترة و أنا أُحاور بعض الأصدقاء، تناولنا موضوع الزيادة الملحوظة في أغلب المُجتمعات بإرتياد النوادي الريّاضية و الإهتمام باللياقة البدنية. و ماتوصّلنا إليه (هُناك دراسات كثيرة تؤيّد هذا الإستنتاج) أنه ليس أكثر من كونه إستثمار في الجَسَد من أجل مواكبة ظروف التنافُس التي لاتَعرف الجُمود. ترى هل ستقبل بي إمرأة و هُناك آلاف غيري يملكون أجساماً رشيقةً (تَعكِس جينات صحية و قوية)؟ لربما نعم، لكن حظوظي ستكون ضئيلة جداً، و غرورنا أكبر من أن يتركنا نَختار هذه الورقة الخاسِرة و تَقبُّل فِكرة أن الآخرَ »أفضَلُ« مِنّا! و بالتالي فنحنُ نواجه خيارين، إما أن نواكِب و نتأقلَم أو نبدأ بالتقليل من قيمة الآخر و إقناع أنفسنا بطريقة تجعلنا نرضى بالواقِع. في عِلم النفس تُسمّى هذهِ المُعضِلة بالتناشُز الإدراكي⁸.
نَظرة نقدية:
لعَلّ من أشد المُنتقدين لهذا المجال، الفيلسوف الأمريكي ديڤد بولر و الذي على حد وصفه يُشكّك في بعض التَكَهنات و التفسيرات للسلوك الجنسي و الإجتماعي لأجدادنا و أن بعض هذه التفسيرات لا تتجاوز كونها إدعاءات مغرورة و شامِلة عن الطبيعة الإستهلاكية البشرية، طبعاً رأيه هذا لايُشاطره الكثير، لكن قبل أن نَحكُم عليه، علينا أن نفهم جوهر نقده.
في الواقِع بعض حِجج عُلماء النفس التَطوّري »تبدو« ضعيفة المُستَنَد، كيف؟
بعض التفسيرات تَنطَلِق من إفتراضات تفرض على كُل من الذَكَر و الأُنثى على إتّباع أهداف و توجّهات مُعيّنة فيما يَخُص السلوك الجنسي. ففرضية الإستثمار الجنسي التي تناولها ديڤد باس في كتابه الشهير حول عِلم النفس التَطوّري، قد تبدو منطقيّة جِداً و سبق و أن عرضنا كيف أثبتت الدراسات تناغُماً بخصوصها، لكنها في نفس الوقت فرضية عِلمية تَحمل في جوفها إحتمالية الخطأ، و إن كانت حتى الآن صامدة أمام النَقد. فكون المراة تَستثمر جهداً و وقتاً أكثر من الرَجُل في التَكاثُر، شيء ليس خاضِعاً للنِقاش، لكن الإنطلاق دائماً من أن الرجال يَبحثون عن الكمية، و النساء عن النوعية بصورة عامة، و أن الهدف الرئيسي دائماً هو فقط نَشر الجينات، يَخلق أجواءاً تَسمح بحياكة قِصص و تفسيرات من الصَعب جداً إثباتها تجريبيّاً!
سامويل پولز، إقتصادي أمريكي و بروفيسور في جامعة ماساتشيوستس، و الذي تَناول بعض الفرضيات المُماثلة التي تَدخل في هذا المجال، حاول تَفسير طبيعة السلوك البشري من منظار مُثير للجَدَل، لكنه ليس بالجديد. فهو يَنطَلِق من فرضية أن أسلافنا كانوا يَعيشون في أجواء صِراع مُستمرّة وعنيفة، مُستَنِداً على ذلك من خلال الأحفوريّات و بقايا الجَماجِم المُهشّمة و العِظام المَكسورة التي وِجدَت في الكثير من بِقاع العالَم، كذلك يًعتقِد پولز أن من الدوافِع التي جَعلت البشر يتعاونون مع بعض و يَتَنظّمون في مجموعات لم يجلب لهم فوائداً إجتماعيةً فحسب، بل عسكرية أيضاً. من يُجيد العَمَل بتناسُق مع المجموعة، يمتلك حظاً أوفراً و فُرصاً أسهل في إجتياح أقاليم جديدة من أجل البحث عن ظروف بقاء أفضل و نساء جديدات يتم تَحبيلهنْ من أجل نشر الجينات »المُحارِبة« للحِفاظ على النوع.
السؤال الذي يَطرح نفسه هنا، هل فِعلاً هذه الضربات و آثار الأضرار على الجماجِم المُهشّمة هي دليلاً كافياً على إستنتاج الأجواء الصراعية التي عاشها البشر آنذاك؟ من خلال جُمجمة مُحطّمة تعود لأكثر من ١٠,٠٠٠ سنة لايُمكِننا الجَزم إذا ما كانت قد تَهشّمت بضربة فأس قاتلة من أحد المُقرّبين أو شخص غريب عن المجموعة، بسبب عَداء شَخصي أو خلال حربٍ شَرِسة!
في أبحاثه أستخدم پولز مُحاكاةً رقمية حاسوبية لإسناد فرضيته هذه و التي من خلالها يُحاول إثبات النظريات التفسيرية التي قدمها عُلماء نفس تطوّريون كِبار مثل گيزيلين و لورنتس.
رُغم كون هذه المُحاكاة البرمجية ليست بذلك الموستوى بعد لتَتناول سلوكيات و تَفاسير مُتكامِلة للبَشَر، ألا أنها مُحاولة لِفَكّ شَفرة بعض السلوكيات و الدوافع التي طوّرت نفسية البَشَر. نظرية النِزاع المُستمر هذه ليست جديدة، بل تناولها الكثير من الفلاسفة في السابق و لعل أشهر ما يَخطُر في بالي توماس هوبس و إقتباسه الشهير »الإنسان ذئب لأخيه الإنسان« و الذي في الحقيقة يعود للشاعِر الكوميدي الروماني پلاوتوس و التي من عبّر من خلالها عن الأجواء الحربية النزعية المُستمرة بين الشعوب و حتى يومنا هذا! رُغم أننا هنا ندين للذِئاب بالإعتذار لهذه الإهانة، فالذئاب حيوانات إجتماعية و مُتعاونة جداً فيما بينها و لا تتعامل مع بعضها البعض بوحشية كما نَفعل نحن.
علينا في نَفس الوقت أن لاننسى أننا نتناول منهجاً عِلمياً و ليس أدبياً، و عليه فميزان التَخطِئة، الشيء الذي يُميّز المنهاج العلمي، صارِم جداً و لاتوجد فرضية أو نظرية لا تَخضَع للفحص و التَدقيق! كما أن النَقد يتناول بعض الفرضيات التي يطرحها الباحثون و ليس المجال العِلمي بِرُمّته و الذي فرض نفسه و بجدارة ! و إنه لمن المثير للأهتمام أن نفهم الأسباب و الضرورات التكيّفية التي طورت سلوكنا و نفسيتنا إلى ما هي عليه اليوم، و كيف أنها نتاج ناجح لتجارب أجدادنا قبل ملايين السنين، الذين تطورت أجسادهم وأدمغتهم لمواجهة تحديات الظروف التي عاشوا فيها، فلولا صراعهم الناجح من أجل البقاء، لما كنا موجودين اليوم.
الخِتام
***
¹ الأستروجين هو هرمون أنثوي يفرزه المبـِيض كهرمون الجنس الأولي، كما يُعتبر الأستروجين عامل حيوي وهام لقيام الجهاز التناسلي الأنثوي بوظيفته بصورة مناسبة.
² الانتخاب الطبيعي هو عملية غير عشوائية، فيها يزداد أو يقل شيوع الخلات الحيوية في التجمع من جراء التكاثر التمايزي (تباين حاملي هذه السمات من حيث التكاثر). و هي آلية أساسية للتطور يتم من خلالها اصطفاء الصفات الأفضل للبقاء.
³ عِلم التخلّق المتوالي، هو دراسة التغيرات الوراثية في التعبير الجيني أو النمط الظاهري الخلوي، و التي تنتج عن آليات أخرى غير التغيرات التي تحدث في تسلسل الدنا. فهو يشير لتعديلات تحدث في وظيفة الجين دون أي تغيير في تسلسلات النوكليوتيدات التي تشكل الدنا. وتتضمن الأمثلة على هذه التعديلات مثيلة الدنا وتعديل الهستون، وكلاهما يضبطان التعبير الجيني دون تعديل تسلسل الدنا الذي يقوم عليه. والدلائل القاطعة التي تدعم الوراثة اللاجينية تُظهر أنَّ هذه الآليات قد تسمح بتوريث التأثيرات المترتبة على تجارب الوالدين إلى الأجيال اللاحقة.
⁴ The Mating Mind: How sexual choice shaped the evolution of human nature - Geoffrey F. Miller
⁵ دان ريلي بروفيسور في جامعة (ديوك)، قسم علم النفس والسلوك الاقتصادي, ومؤلف الكتابين »لاعقلانية مُتوقعة« و »الجانب المشرق من اللامنطقية« - هورتاچسو و هيتش باحثا إقتصاد سلوكي في جامعة شيكاگو
⁶ http://people.ucsc.edu/~nuclear/econ180/hotnews/onlinedating.pdf
⁷ راجِع كتاب ديڤد باس »عِلم النفس التَطوّري«
⁸نظرية التنافر أو التناشُز الإدراكي (بالإنجليزية: Cognitive Dissonance) : منحى في علم النفس يذهب إلى أن وجود إتجاهات أو معتقدات متعارضة عند الشخص أمر يثير عنده القلق، و لذا يحاول تغيير تلك الإتجاهات و المعتقدات ليجعلها أكثر اتساقا فيما بينها.
Comments