top of page

الفلسفة الرواقية في عصر ما بعد التفرّدية التقنية

  • Saif Al Basri
  • 9. Jan. 2016
  • 6 Min. Lesezeit

لنضرب عصفورين بحجر و نتعمّق بشكل غير معقّد و سلس في فلسفة حياتية تستحق على الأقل أن تطّلع عليها لتهذيب ذاتك و في نفس الوقت في مفهوم التفرّدية التكنولوجية الحتمية الحدوث لو استمرت البشرية دون كارثة تمحيهم من على سطح الأرض، إضافة لكونها نقطة جوهرية في أي نظرة مستقبلية تخص الاقتصاد، السياسة، الدين، الأخلاقيات و كل جوانب الحياة. سأتناولهما بشكل بسيط و أوضّح الصلة الجوهرية و المطلوبة بين الإثنين.

المستقبليون مثل راي كورزويل و مايكل أنيسيموڤ يعتقدون أن التطوّرات في مجال الذكاء الاصطناعي سوف تتوّج في المستقبل القريب إلى عصر يشهد تجاوز البشر النموذج البيولوجي و الولوج إلى أبعاد جديدة تعالج نقاط الضعف و القصور فيه. عصر التفرّدية ‪[singularity]‬ هذا يصفه كورزوايل على النحو التالي:

"في غضون ربع قرن، و الذكاء الاصطناعي سيطابق مدى و دقّة الذكاء البشري. بعد ذلك، سوف يتجاوزه بسبب التسارع المستمر لتكنولوجيات المعلومات، فضلاً عن قدرة الآلات على مشاركتها البشر المعلومات المتوفّرة. سيتم دمج روبوتات صغيرة ذكية ‪[نانوبوت]‬ بعمق في أجسامنا، عقولنا، و بيئتنا، و التغلّب على التلوّث و الفقر و إطالة العمر إلى حد كبير، غمر متكامل في واقع افتراضي يشمل جميع الحواس (مثل ماتريكس) و تعزيز الذكاء البشري نفسه.النتيجة ستكون عملية اندماج حميمة بين كائنات خلّاقة للتكنولوجيا و بين عملية تكنولوجية تطورية ناتجة عن هذا التلاحم. الذكاء اللا بيولوجي سيتمكّن بدوره من الولوج إلى تصميمه الخاص و سوف يكون قادراً على تحسين نفسه في دورة إعادة تصميم سريعة على نحو متزايد. عندما سنصل إلى هذه النقطة، سيكون التقدّم التقني سريعاً بحيث لا يمكن للذكاء البشري غير المعزز الصمود و موازاته. هنا تحديداً نبدأ بمرحلة التفرّدية."

‫مايكل أنيسيموڤ، الكاتب و الناشط العودوي [NRx] و القريب من كورزوايل، يعرّف التفرّدية بشكل أدق و أبسط:‬

‫"ذكاء أعلى من مستوى ذكاء الإنسان. هذا هو التعريف بكل بساطة. سواء نتج عن الذكاء الاصطناعي، التواصل بين الحاسوب و الدماغ، جراحة المخ و الأعصاب، الهندسة الوراثية، أو أياً كان، التفرّدية التكنولوجية هي النقطة التي تنتهي فيها قدرتنا على التنبؤ بالفواصل المستقبلية، بسبب بزوغ شخصية جديدة تختلف عن جميع الشخصيات السابقة في تاريخ الإنسان، هذه الشخصية ستكون ذو ذكاء يفوق الإنسان، سواء كانت هذه الشخصية بشراً محسّناً أو روبوتاً"

التطوّر المعلوماتي هذا سيبعث بمزيد من التعقيد، أناقة أكبر، زيادة معرفية، زيادة في الذكاء، الجمال، الإبداع، مستويات أعلى من سمات خفية مثل الحب و حتى الخلود.

كورزوايل، أحد البارزين بملاحظة الإنجازات الإنسانية التي تحققت في التاريخ الحديث [اقرأ كتابه عن التفرّدية التقنية TheSingularity Is Near]، يعتقد أن مفتاح الخلود هو تقنية النانو. حيث نظراً إلى الاتجاه الذي تتطوّر فيه أجهزة الكمبيوتر و التي تصبح باستمرار أصغر حجماً و أكثر كفاءةً، سوف يصبح الناس حينئذٍ قادرين على حمل الروبوتات الصغيرة في عروقهم لتنظيف و توفير صيانة دائمة للدم و الخلايا. كورزوايل يفترض أيضاً أن الروبوتات سوف تحلّ محل أعضائنا عندما تفشل و يصيبها الإرهاق، و من شأن هذه التطورات أن تعني أن ما دامت الروبوتات تُزوّد بالطاقة و تعمل بشكل جيد، سوف يتمكّن البشر من البقاء على قيد الحياة و إطالة العمر.

تنبؤات كورزوايل سبق و أن أثبتت من قبل أنها أبعد ما تكون عن اللادقة. فقد تنبّأ بنجاح بالعام الذي ظهر فيه الهاتف الذكي و قدراته، كما وصف الإنترنت قبل اختراعه أصلاً.

كذلك أقنع زملائه في الأوساط العلمية بفرضيته حول خلود الإنسان. هو يسمّي نظريته بقانون العائدات المتسارعة [المقصود بالمتسارعة هو النمو الأسّي للتطوّر التقني الذي يعود بدوره على الصناعات بكفاءة أكبر و تكلفة أقل]. حيث يوضّح أنه من خلال تكنولوجيا النانو سيكون البشر قادرين على وقف و عكس عملية الشيخوخة. فهو يعتقد أن الروبوتات الصغيرة ستكون أضعافاً مضاعفة أكثر كفاءة من الخلايا البشرية العادية.

هو يتوقّع أيضاً أن الإنجاز لن يقتصر فقط على تحقيق الخلود، و لكنه سوف يمكّننا من إنجاز المهام التي استحالت على البشر ذو البيولوجيا العادية. تخيّل مثلاً أن تجري في سباق أولمبي لمدة ٢٠ دقيقة دون أن تأخذ نَفَساً، أو الغوص في الأعماق لأكثر من أربع ساعات دون أوكسجين.

مع إضافة حياة زائدة و تطوير قدرات دماغنا، كورزوايل يشير أيضاً إلى أن الروبوتات الصغيرة ستكون قادرة على تمكين البشر من فعل أشياء تستعصي على جنسنا البشري اليوم، مثل كتابة كتاب كامل في غضون دقائق!

و يعقب كورزوايل واصفاً كيف أن العالم سيتغير حولنا، فالروبوتات الصغيرة في أجسام البشر مثلاً ستكون قادرة على تغيير تصوّراتهم و خلق عوالم افتراضية في وعيهم، و الجنس الافتراضي سيصبح أمراً مألوفاً و سوف تظهر شخصيات / تصوّرات هولوغرامية ثلاثية الأبعاد أمامنا كما لو كانت حقيقية.

‫ رغم أننا أضعنا الكثير من الوقت في القرون الماضية في الحروب و الصراعات التي غالباً ما كانت عائقاً أمام عجلة التقدّم، إلا أنه لابد من الاعتراف بأن لبعض الحروب دوراً بارزاً و مهماً في بزوغ تقنيات جديدة كانت ولّادة لأغلب ما نستخدمه اليوم من أجهزة ذكاء اصطناعي.‬

‬‪‬

‬ستيفن هوكينگ صرّح في لقاء مع البي بي سي: "إن تنمية الذكاء الاصطناعي الكامل قد تعني نهاية الجنس البشري" مشيراً إلى أن التطوّر التكنولوجي هو سيف ذو حدين. و رغم كونه من المتحمّسين لمستقبل زاهر، فتحذيره هنا يستحق وقفة. لأننا لو أردنا أن نرتقي لأجيال ذكية تتمكّن من تجاوز مشاكلها الاجتماعية، عدم كفاءة الطاقة، قلة الموارد، الأمراض، التضخّم السكّاني و الكوارث الطبيعية، فإننا نحتاج دائماً لمعرفة هدفنا مع العالم و القوى التي تكمن في أبعاد هذا التطوّر التقني. فالتعامل مع الطبيعة البشرية بشكل يراعي اللاعقلانية و خطورة الهفوات الممكنة، يسمح لنا من تقليص نسبة الوقوع في الأخطاء الكارثية التي من الممكن أن تمحينا من الوجود تماماً. فعلى الرغم من أن التفرّدية التقنية ستقرّبنا من "الكمال"، علينا أن نعترف بأننا على الأرجح لن نكون مثاليين. فالتقدم التكنولوجي قد يحل الكثير من القضايا التي نعتبرها تهدد وجودنا اليوم، لكنه في نفس الوقت سوف يعرض مشاكل جديدة أخرى‪:‬

بعض هذه المشاكل نجدها حاضرة اليوم وتهمل نقطة مهمة تمس كيان الإنسان بطبيعته: أن المنافع المادية و التقدّم التقني لا تضمن السعادة. من هذا الدرس نتعلّم أننا بحاجة دائماً إلى استرشاد نظرة أوسع في إدراك الواقع و الاستمتاع بالحياة في نفس الوقت. و هذه النقطة تنقلني إلى المفصل الثاني من هذا المقال لنطرح السؤال التالي: هل تستطيع فلسفة مثل الرواقية أن تكون مفيدة في زراعة الفضيلة و إرشاد الذكاء، ليس فقط بالنسبة للبشر لكن للذكاء الاصطناعي أيضاً؟

لربما مصطلح كـ "الفضيلة" كافي لفتح باب جدلي حول نسبيته، لكنني سأكتفي بتعريفه الرواقي بالفعل الخير الذي لا يؤذي الذات و لا الآخرين من منظور نفعي. الرواقية تعرّف نفسها كفلسفة عملية أخلاقية و أسلوب في الحياة يقوم على العمل المطابق للعقل و يجري بمقتضى قوانين الطبيعة، فالحياة يجب أن تعاش وفق الطبيعة، و هذا هو أنموذج كل إنسان عاقل. كما تدعو لفضيلة أخلاقية حسنة غايتها الولوج إلى استقرار داخلي و هدوء يجرّد الإنسان من انفعاليته و يحجّم من لاعقلانيته في رسم ملامح حياته و أهدافه. فالفضيلة على حد سواء شرط ضروري وكافي لتحقيق السعادة في حياة المرء. و كل ذلك يتجلّى من خلال الانضباط النفسي و إدراك القصور الذاتي. الفلسفة في الرواقية هي محبة الحكمة و ممارستها، و الحكمة هي العلم بالأشياء و إدراك القصور و القدرات و ما نسيطره عليه و ما هو خارج عن سيطرتنا. إذن التناغم الثلاثي بين العلم الطبيعي، الأخلاق و المنطق يجسّد الأبعاد الثلاث لهذه الفلسفة.

لكن ما الغاية من ذلك عند مناقشة الوعي الاصطناعي؟

نحن ندرك أن عواطفنا، أحكامنا، و معتقداتنا هي جزء لا يتجزأ من طبيعتنا البايولوجية كحيوانات اجتماعية. لذلك، إدراك أن الفرد لديه القدرة في السيطرة على تقييماته و أحكامه، بل حتى مزاجه في التفكير، تجعله مؤهلاً لنظرة أعمق و أكثر عقلانية تجاه المحيط الخارجي و أدق في تقييم قدراته و حدوده. و بما أن الذكاء الاصطناعي هو في جوهره محاكاة لذكاء الإنسان، فإن ملامح الذكاء الاصطناعي، و حتى ذلك الذي سيفوقنا، متعلّقة بطبيعة الإنسان نفسه. محاولة فهم إدراك هذا الذكاء لطبيعته هي خطوة أساسية في رسم ملامح ذكاء مستقبلي يتجاوز الأخطاء البشرية، لكن مع ذلك يراعي مفاهيم صعبة كالسعادة و الحكمة.

حيث أننا لانستطيع الجزم بأن كل شيء سيتطوّر على نحو يناسب تصوّراتنا، كما أنه من الممكن أن يتخلّى الذكاء الاصطناعي عن الكثير من المشاعر معتبرها عائقاً تجاه تطوّر ذكاءه. خطوة قد تدفعنا إلى الندم أو إلى عالم تعيس جداً.

في كتابه "مستقبلنا المتسارع Our Accelerating Future" يكتب مايكل أنيسيموڤ:

"لاختصار الفكرة في جملة واحدة، الذكاء الاصطناعي المتقدّم ينطوي على خطر [...] لأنه من الصعب برمجة ذكاءً اصطناعياً يقيّمنا نحن و أهدافنا، لأنه ليس من السهل تعريف بالضبط ما نعني بـ "نحن" و"أهدافنا". الذكاء الاصطناعي لن يفهم بشكل حدسي "القيمة الإنسانية" مثلما يفهمها البشر. مثل هذه الحقائق الملحّة تحتاج لتحديد بالتفصيل الرياضي; ببساطة لا يمكن نقل الفكرة بهذا العمق من خلال محادثة عابرة. فالبشر لديهم أنماط عصبية متطوّرة تسمح لنا باستيعاب الأخلاق و الحس السليم، الذكاء الاصطناعي لا يمتلك تلك الأنماط."

النقطة هذه مهمة جداً و تخضع لأمر محتوم. لأن أي محاولة لتحجيم مستوى الذكاء الاصطناعي إلى الأبد ستبوء بالفشل. نحن بحاجة إلى جعله يتعامل معنا بإيجابية حتى لو كانت لديه القدرة على تدميرنا. بكل بساطة ليس لدينا أي خيار آخر، لأنه في المدى الطويل، من الغير ممكن تحجيم الذكاء الاصطناعي. إلا إذا كنا نحن البشر أنفسنا هذه الشخصية الجديدة، السايبورغ الذي سيبسط سيطرته على العالم و لربما النظام الشمسي و المجرّة، كما يتنبأ الفيزيائي الكبير ميتشيو كاكو.

إذن إطاعة أوامر الإنسان إلى الأبد غير ممكنة. و بالتالي السبيل الوحيد هو في أن يتطوّر الذكاء الاصطناعي و يرتقي لهذه المرحلة من الاستيعاب الأخلاقي من تلقاء نفسه. دون إشرافنا، لكن بمساعدتنا.

فزرع قيم قابلة للبرمجة في الذكاء الاصطناعي لتجعله يتفهّم طبيعتنا بشكل دقيق سيحدد مستقبل العالم حينئذٍ. فذكاء اصطناعي متفهّم للبشر، لعواطفهم، لـ لاعقلانيتهم، لسعيهم نحو السعادة، بل و حتى رغبتهم الباثولوجية في الاستمتاع بالألم، الكذب، الحزن و ماشابه، سيقودنا نحو مستقبل أكثر ازدهاراً و عمقاً مما نشهده في الحاضر. عكس ذلك، سيقودنا نحو ديستوبيا مخيفة كتلك التي حذّر منها ستيفن هوكينگ أو إيلون ماسك.

و عليه، فمستقبل التفرّدية الإيجابية من منظورنا كبشر اعتياديين يعتمد على فهم موضوعي للعواطف البشرية و الدوافع التي تتحكمّ بهذا الكائن الذكي و في نفس الوقت قدرته على السيطره على ذاته، أسلوب حياته و نظرته للواقع. لذلك ستكون الرواقية مهمة في مساعدة الإنسان على تخطّي لاعقلانيته و تهذيب غرائزه التي من الممكن أن تضلّه عن رؤية عاقلة و غير متسرّعة تجاه المستقبل و تجاه طموحاته، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بتعامله مع التقدّم التقني.

Comments


bottom of page