top of page

قصور مبدأ العلّية ومشكلة فكرة المسبّب الأوّل

  • Saif Al Basri
  • 30. Jan. 2016
  • 5 Min. Lesezeit

مبدأ العلّية هو من أهم آليات عمل عقلنا على الإطلاق ونحن بحاجة لاستخدامه كمفهوم تواصلي بقدر حاجتنا لمفهوم الصدفة والعشوائية في تفسير ظواهر الكون وفيزيائه، وهنا لا أقصد الفهم الشعبي الساذج. فالصدفة لا تقتضي دائمًا غياب السببية، بل هي نوع من عدم التحديد أو التقاطع أو التشابك في الأسباب المنتجة للحدث، كيف؟ دعني أوضّح بمثال: تخيل نفسك كمهندس معماري أثناء مراسيم افتتاح أول بناية جديدة أنت صممتها، وفجأة تضرب صاعقة أعلى المبنى وتصيبه بضرر، في هذه الحالة نعتبرها محض صدفة. ولكن هل يعني ذلك أن قوانين الكهرباء قد أصابها الخلل؟ بالتأكيد المبرهن لا، إلاّ أنّ التقاء مجموعتين من الأسباب المستقلة الواحدة منهما عن الأخرى، أي ترافق سقوط الصاعقة مع لحظة الافتتاح، يجعلنا نتحدث عن الصدفة.

في نفس الوقت ماهية السببية هي تصوّر يقتصر وجوده ضمن إطار العقل البشري، فالعلّية ليست شيئًا ملموسًا أو قابلاً للاستدلال بقدر كونها مفهومًا وآلية يستخدمها العقل في ربط الأحداث مع بعضها. ولهذه الآلية جذور تطوّرية سهْلت لنا تنظيم حياتنا والتكيف مع ظواهر الطبيعة وتجنّب أخطار المحيط الذي نعيش فيه. فبين ظاهرتين لا توجد أي علاقة حقيقية، فأنت عندما تلاحظ أن الظاهرة 'ب‘ تأتي عقب الظاهرة 'أ‘، تربط تلقائيًا بينهما بسبب اقترانهما في الوجود زمانًا ومكانًا، وهذا الربط إنما هو افتراض ذهني ذاتي.

لكن مالمشكلة في الحتمية وفي السببية؟ ما هي إشكالية العلّية في تفسير الكون؟ وهل نحن فعلاً بحاجة لمسبّب يفسّر الكون "المعلول" افتراضًا؟

العلم الحديث وفيزياء الكون لهما رأي واضح وإن تخلله التعقيد، فالطفرات الجينية والطفرة أو التنقّل الكمّي وبعض الظواهر الفيزيائية الأخرى تدفع بنا للتأمّل قليلاً في فكرة السببية هذه التي يستلذّها العقل بفطرته. فافتراض أن هناك سبب أوّلي أو خالق للكون، قد يشوبه بعض الخطأ. كيف ذلك؟

سأوضّح الفكرة أكثر: السبب هو حدث أو فعل يؤثّر على حدث أو فِعل آخر، لذلك من البديهي أن يكونا، السبب والنتيجة، خاضعين لعلاقة زمنية مترابطة. وعليه، فالسبب الأول يشترط الوقت، وبالتالي لا يمكن أن يكون سببًا للزمن أيضًا. أي إذا كان الإله هو السبب الأوّل، فهو إذن ليس أعلى سلطةً، و إنما تعلوه الضرورة الزمنية ويصبح 'بحاجة' للزمن، الذي من جديد يبحث عن علّته. فمن يفترض وجود العِلّة، هو مطالب بالدليل، وهو مطالب بأن يثبت أن السببية تتوقف عنده فقط، لأن توقفها بحد ذاته هو ذلك التناقض بجوهره! أبسط مثال على مشكلة الفكرة هذه:

تخيل معي أن هذا المسبّب الأوّل قادر على كل شيء، أي أنه يمكن أن يكون منتهيًا ولامنتهيًا، لكنه في هذا الافتراض ”لا يستطيع“ و يعجز عن أن يكون منتهيًا، لأنه إذا أصبح منتهيًا، فيحتم على نفسه الفناء، وكيف يفنى وهو خالد؟! وبالتالي هذا مثال بسيط على عجز وقصور يتناقض مع ”الكمال“.

و لذلك تجد غالبًا ما يعتبر العديد من الفيزيائيين مبدأ العلّية أقل أو ليس مناسبًا لوصفه بـ "قانون الطبيعة" و إنما هو تفسير بشري منطقي لتتابع الأحداث، حيث لا يوجد قانون أو ثابت كوني يشترط بالضبط إطار وحجم علاقة العلّة والمعلول زمكانيًا; سأتناول الفكرة أكثر لاحقًا.

ركز معي قليلاً في هذا السناريو: أنت صائد برّي تشاهد أمامك غزالاً و تصوّب نحوه. عندما نتكلم هنا عن عالم حتمي ونفترض الحتمية، فيصبح الحدث "الغزال قد مات" هو ما لا يقبل الشك وهو ما سيحدث. الآن، وهنا يكمن الفرق بين الحتمية والسببية، لنفترض أنك في عالم تحكمه السببية، حينها تكون دقة التصويب، التجربة وإتقان السيطرة على السلاح هي أسباب وقوع الحدث "الغزال قد مات"، في نفس الوقت تكون هناك فرص فشل واردة لا نستطيع تجاوزها. في العالم الحتمي نستطيع إستنتاج وهم الإرادة الحرة، وهو ما يتعارض مع نظام الخالق الأخلاقي. في العالم السببي بالمقابل، يصبح المعلول، نشوء الكون على سبيل المثال، هو أيضًا احتمالية بجانب احتمالات أخرى عديدة، ومن جديد، السببية تسبق هنا رغبة الخالق. لكن دعني أنتقل بك لعالم الكمْ لتتوضح الفكرة أكثر.

مفهوم السببية الكلاسيكي مفهوم ناقص ويجب تجاوزه وذلك للأسباب التالية:

١) إذا ما تناولنا مبدأ العّلية وفق منظور علمي عقلاني، بحيث نقرّ أن مستوى إدراكنا للعلاقات في العالم الذرّي لا يمكن أن يحتكم للسببية بشكلها الكلاسيكي وأخذنا بعين الاعتبار النتائج التجريبية والاستنتاجات النظرية لميكانيكا الكم، سنصل حينها إلى تعريف لنوع جديد من السببية، يطوي ضمن إطاره الطبيعة الاحتمالية للنظام المدروس والاعتراف بالقصور الحتمي والخضوع لمبدأ اللادقة لهايزنبيرگ. فأي نظام وأي حدث كمّي لا نستطيع تفسيره فيزيائيًا ودراسته وفق المفهوم الكلاسيكي؛ لذلك، السببية الاحتمالية التي تدرس العلاقات بين المقدّمات والنتائج بشكل كلّي يأخذ باعتباره النظام ككل بالإضافة إلى الاحتمالات الممكنة للحالات التي يمكن للنظام أن يكون فيها، تعالج هذا القصور الكلاسيكي؛ هذا المبدأ تتناوله أيضًا نظرية التطوّر في تفسير الطفرات العشوائية وآلية عمل الانتخاب الطبيعي. في هذه الحالة تكون ”علّة المعلول“ واحدة من احتمالات ممكنة أخرى ومن جديد نجد فكرة المسبّب الأول أو العلة الأولى الوحيدة ناقصة المضمون وتفتقر للدعم العلمي الكافي لنناقش بيقين.

٢) مبدأ اللايقين لهايزنبيرگ نتج عن الطبيعة المزدوجة لهذا العالم الصغير تحت الذرّي ومن خواصه الغريبة التى تحصل بسبب القياس الذي هو نفسه عقبة أمام قياس ومعرفة حالة أي جسيمكمّي بدقة! أي إذا قمنا بقياس الخواص الجسمية لكمّية فيزيائية بدقة علىالمستوى الكمّي، وهي خواص المكان أو الزمن، فإنه من المستحيل تحديد الخواص الموجية بدقة، أي الطاقة وكمّية الحركة، وعليه، يبقى مقدار الشك فى الخاصيتين معًا أكبر من ثابت بلانك ولا يمكن أن يقل عن ذلك ليكون صفرًا وتكون هاتان الخاصيّتان محددتين بدقة. معناه أن الإنسان ليس قادرًا على معرفة وقياس كل شيء بدقة ١٠٠٪، إنما هناك قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه. وهذه الحقيقة الطبيعية تخضع لمعادلة هايزنبيرگ التي يتحكّم فيها ثابت بلانك ->

عدم التأكد في كمية الحركة x عدم التأكّد للموقع ≃ ثابت بلانك

٣) الحدث 'ب' يتحقق بسبب الحدث 'أ' الذي يسبق وقوعه وقوع الحدث 'ب' على خط الزمن، و وفقاً لهذا التعريف، وجب أن لا يتجاوز تأثير 'أ' على 'ب' سرعة الضوء. في حالة عدم الإنصياع لهذا القانون يعني ببساطة انتهاك السببية، وهو ما أثبتت ميكانيكا الكم إمكانية حدوثه.

فيزيائيًا تسمّى هذه الظاهرة بالتشابك الكمّي، حيث يمكن لأثنين أو أكثر من الجسيمات الكميّة أن ترتبط مع بعضها البعض وترتبط فيها الجسيمات الكميّة ببعضها، رغم وجود مسافات كبيرة تفصل بينها. مما يقود إلى ارتباطات في الخواص الفيزيائية لهذه الجسيمات.

عند تغيير خاصية إحدى هذه الجسيمات، جسيّم س، يمكن أيضًا ملاحظة هذا التغيير عند الجسيم ص دون تأخير ودون حاجة للزمن. نعم، الفكرة مجنونة لكن هذا هو الواقع المدهش لعالم الكوانتم. الشيء المتناقض هو أن "نقل" من مثل هذه المعلومات من جسيّم إلى آخر ليس ملزمًا بسرعة الضوء - حتى لو كانت المسافة بين جسيّم س و جسيّم ص عدة سنوات ضوئية! التغيير في الخواص يطرأ على الجسيّمين في آن واحد!

لاحظ كيف يسقط الوقت والتتابع الزمني فجأة من المعادلة؟! هل ستجيد استخدام السببية الكلاسيكية في تفسير الظاهرة؟ لا أظن ذلك!

في الختام، إن لم تفهم الكثير، لا بأس، الفيزياء الكميّة بقدر ما هي شيّقة وممتعة، هي معقّدة أيضًا. ما لذي تستمدّه من هذه المقالة؟ لا شيء، فقط متّع عقلك قليلاً ووسّع نطاق مخيّلتك. فالعِلم هدفه تفسير الظواهر حولنا وفك ألغاز كوننا الشاسع، لا أكثر. حاول مراجعة فكرة السببية هذه، تأمّل بها قليلاً و اقرأ أكثر إن رأيت أن الموضوع قد جذب انتباهك. في النهاية، لا أعدك بأي حقيقة مطلقة في هذا النص، لكن أستطيع أن رصانة المنهج العلمي لا تسمح لي بأن أتكلم بلغة اليقين، وهذا هو المطلوب، المرونة في الفكر وتناول الأفكار وتفكيكها، مهما راقت لنا ومهما أطربتنا!

Comments


bottom of page