مقدّمة في بديهيات الذكاء الاصطناعي لغير المتخصص ٢
- سيف البصري
- 19. Aug. 2016
- 6 Min. Lesezeit
علاقة الذكاء الاصطناعي بالدماغ البشري
الغرض الجوهري من الذكاء الاصطناعي هو السماح للكمبيوتر بالعمل إلى حد ما مثل العقل البشري. مع ذلك، هذا لا يعني أن الـ AI يسعى فقط لمحاكاة كل جانب من الدماغ البشري. الدرجة التي تطابق فيها خوارزمية حاسوبية الأداء الفعلي لدماغ الإنسان تسمّى بالمعقولية البيولوجية.
كريستوف كوخ، المدير العلمي لمعهد آلين لعلوم الدماغ [Allen Institute for Brain Science]، يقول أن الدماغ هو ”الشيء الأكثر تعقيداً في الكون المعروف‟. و التعقيد هنا كلمة ينظر لها الباحثون في هذا المجال بشكل أعمق.
ففي سياق الذكاء الاصطناعي يعتبر الدماغ أداة تكنولوجية متقدّمة، لذلك تجد الكثير من العلماء يدرسون الدماغ من باب إعادة هندسة أجزائه و محاولة تعلّم كيفية محاكاته.
لكن الدماغ ليس القطعة الوحيدة من ”التكنولوجيا المتقدّمة‟ التي تشاطرنا إياها الطبيعة. خذ الطيران على سبيل المثال. نحن البشر حاولنا على مر التاريخ محاكاة أجنحة الطيور و فشلنا كثيراً قبل أن نتسيّد السماء اليوم بالطائرات التي تحلّق في علو يتجاوز عشرات الكيلومترات و تزن مئات الأطنان [اقرأ هنا عن طائرة أنتونوڤ الروسية An-225 التي تزن 247 طنّاً و بحمولة تصل لـ 600 طناً – الارتفاع يصل لـ 11 كم ] التي ترفرف في السماء. يطلق على المناطيد التي صممها البشر لمحاولة الطيران بالـ أورنيثوبتر. هذه التصاميم لم توفّق في مهمتها، لكن هنا مثال عن تصميم في بداية القرن العشرين.

كانت الطيور البيولوجية النماذج الوحيدة لآلات الطيران في أوائل القرن العشرين. منطقياً، محاكاة قدرة الطيور على الطيران هي المثال الأفضل للاقتداء به، لأنها بكل بساطة النموذج البايولوجي الأنجح. لكن مع ذلك، على مر التجارب مع آلات الطيران، تعلّم البشر أن لا يتابعوا مسار الطبيعة بشكل حرفي جداً، لأن الإنسان عندما حاول محاكاة قدرة الطيور على الطيران، لم يسفر عن ذلك نموذج طيران ناجح مقارنة مع الاكتفاء بالوصول إلى الهدف النهائي من التجارب، أي الطيران.
كما تجد في الصورة أعلاه، النماذج هذه حاولت محاكاة مورفولوجية الطيور بشكل قريب جداً، لذلك فشلت في البداية.
لكن لابد من التذكير بأننا اليوم أصبحنا قادرين على تصميم نماذج تطير و تشابه الحشرات في الطيران و بشكل قريب جداً من الهيئة البايولوجية، شاهد هنا http://goo.gl/DHK93t
هنا أيضاً نموذج لجسم طائر يحاكي الحشرات الطائرة بأجنحة ترفرف بسرعة 120 ضربة جناح في الثانية الواحدة!
مايكل أنيسيموف يتناول في مقالته ”البعد-إنسانية و التولد المتجدد‟ [ترجمة: حيدر راشد، غير منشور] نقطة مهمة حول قابلية العقل البشري، بجانب قدرته التجريدية، على إعادة هندسة الطبيعة حوله إلى مكوّنات فردية قابلة للاستبدال أو التحوير بالشكل الذي يحقق الغاية المطلوبة من التصميم:
”اخترعت الزراعة من قبل النمل قاطع الأوراق قبل 50 مليون سنة، لكنها لم تنضج إلا قبل 8-12 مليون سنة، حين أصبح النمل قادرا على استخدام الكتلة الحيوية للأوراق الحية بدلا من الميتة، مما زاد من كفاءتها بشكل كبير. لقد وصف إي. أو. ويلسون التعايش بين الفطر والنمل، الذي يعتمد عليه هذا النوع، بأنه «أحد أهم الاختراقات في التطور الحيواني» على حد سواء مع الكرش عند المجترات أو الطيران النشط عند الطيور. إن النمل قاطع الأوراق هو العاشب المسيطر في بيئته، فهو يحصد كتلة حيوية من الأوراق أكثر من أي مجموعة أخرى، أي حوالي 15-20% من المجموع. يدعي أحد المصادر أنها تشكل 86% من الكتلة الحيوية للمفصليات arthropods في الغابات المطيرة. وذلك قريب جدا من السيادة البيئية في موئلها.
أما الزراعة كما مارسها البشر، فقد استغرقت 5.000 عاما كي تتطور. فأول النباتات المستأنسة تمت زراعتها عند قرابة 10.000 ق.م، وبحلول 5.000 ق.م. تمكن السومريون من تطوير زراعة كفئة واسعة النطاق، اعتمدت عليها حضارتهم الرائدة.
وهكذا، حيث أن زراعة قاطعات الأوراق قد استغرقت 40 مليون سنة كي تتطور، تطلبت الزراعة البشرية 5.000 سنة فقط، بنسبة 8.000 إلى 1. فقد كان البشر أسرع بـ 8.000 مرة من النمل في تطوير الزراعة. وهنا يظهر تفوق فكر التصميم البشري على جينات التجمعات الدارونية.
عملية أخرى نقارن بها تفوق الفكر على التصميم التطوري هي تطور الطيران النشط. فقد تطور ذلك طبيعيا في أربع مواضع منفصلة على الأقل (الحشرات، التيروصورات، الطيور، الخفافيش). لقد كانت الثدييات تطير شراعيا لأول مرة قبل حوالي 150 مليون سنة، لكنها لم تتطور إلى كائنات طائرة حديثة (خفافيش) إلا قبل 5 مليون سنة أو بعد ذلك. وبخلاف ذلك، فقد بدأ البشر بمحاولة الطيران الشراعي قبل حوالي 1.000 سنة، وبنوا طيارة عام 1903، أي بفاصلة 1.000 سنة. وهنا نجد النسبة أعلى بكثير، 10.000 إلى 1. ولو قارننا تطور الطيران في الحشرات، التيروصورات، والطيور مع تطور الطيارات، فقد تكون النسب مختلفة قليلا، ولكن لن يكون العامل أكبر من عشرة. والقصد أن الفرق عظيم جداً.
إن أهمية الزراعة والطيران النشط ليست من منظور ذاتي. فهذه التكيفات تحدث فرقا جسيما في نجاح النوع الذي يتبناها. فالزراعة لدى النمل القاطع للأوراق جعلته العاشب المسيطر في الغابة المطيرة، وهي موئل ضخم ومهم عالميا. والطيران لدى الخفافيش جعلها من بين الجماعات الثديية الأوسع انتشارا، بحيث تشكل 20% من أنواع الثدييات المصنفة. والزراعة عند البشر قد دفعت تعدادنا للتفجر وخلق الحضارة، أما الطيران النشط فقد أعاد تشكيل الاقتصاد العالمي، العسكرية، الجغرافيا، و الجيوسياسة.‟
التجريد في المحاكاة يظهر في العديد من السياقات الأخرى. على سبيل المثال، أنا أكتب هذا النص و أستخدم MacBook يمكنه محاكاة نظام Windows. المثير للاهتمام هنا هو أنه الـ Mac عندما يحاكي سوفتوير Windows، فإنه لا يحاكي الترانزستورات الفعلية التي تشغّل المعالج في هاردوير من شركة Dell مثلاً صمم لتشغيل سوفتوير Windows، حيث أن المحاكاة تحدث على مستوى أعلى.
الذكاء الاصطناعي يركّز على الوظيفة و الهدف المطلوب. فبعض الخوارزميات تحاكي الخلايا العصبية، في حين أن بعضها – مثل تلك الموجودة في داخل الماك عندي – تعمل على مستوى أعلى.
نحن نركّز على الغاية النهائية للوظائف المطلوبة من الكمبيوتر، و ليس على محاكاة جميع العمليات التي تؤدي إلى وظيفة ما في الدماغ، لأن ما نريد تحقيقه هو أكثر أهمية من كيفية القيام بذلك. فعلى أعلى مستوى نجد هناك أوجه تشابه عديدة بين الدماغ البشري و بين معظم خوارزميات الـ AI. كمثال آخر للتوضيح: نحن نستخدم الموجات الصوتية للتواصل على مدى بعيد، تماماً مثلما تتواصل بعض الثديات مع بعضها، لو قمنا بتصميم نفس الحبال الصوتية و نفس الفم عند تلك الحيوانات، فنحن هنا نحاكي على المستوى الدقيق، لا على المستوى الأعلى. بينما الأجهزة الحديثة تحقق لنا الغاية دون الحاجة لمحاكاة دقيقة للهيئة المورفولوجية للثديات: أي التواصل عبر الموجات الصوتية من خلال التقنية التكنولوجية.
أظن أن الكثير منكم قد سبق و أن قرأ الكثير عن الدماغ من قبل، و لعلّ أغلبكم لن يتفاجئ عندما يقرأ أننا مازلنا نعرف القليل جداً عن آلية عمله الداخلية المعقّدة. لذلك سأتكلّم عن آلية عمل الدماغ على المستوى الخارجي، لأننا هنا نعلم أكثر مما قد يظن البعض.
الدماغ البشري و عالمه
تخيّل الدماغ كصندوق أسود ترتبط به ألياف عصبية كثيرة جداً. هذه الأعصاب تنقل الإشارات بين الدماغ و الجسم. الآن حاول أن تتصوّر مجموعة معينة من المدخلات [Input] التي تقود إلى نتيجة معيّنة [Output]. ماذا أقصد بمدخلات؟
على سبيل المثال، عندما تضع إصبعك على جسم جماد ساخن ستصل حينها حرارة الجسم هذا عن طريق الأعصاب في الطبقة الجلدية إلى الحبل الشوكي – المربوط بالدماغ – الذي يستلمها و يتعامل معها كـ [Input] و بدوره يرسل الأوامر عن طريق أعصاب أخرى إلى العضلات لسحب الإصبع من على الجسم الساخن كنتيجة [Output]. هنا نشهد عمل الدماغ على المستوى الخارجي.
من المهم جداً أيضاً أن نلاحظ أن الدماغ يحتوي على حالة داخلية، كيف؟ عندما تسمع فجأة بوق السيّارة، فإن تفاعلك مع الصوت هذا تحديداً تتحكّم به ليس فقط المحفّزات الناتجة عن الموجات الصوتية، و لكن أين، أي المكان الذي أنت فيه عندما تسمع البوق. لأنك لو سمعته و أنت في قاعة السينما و تشاهد فلماً، فستكون الاستجابة المثارة مختلفة جداً عن سماع البوق عند عبور الشارع المزدحم. إذن، معرفة أين أنت تخلق حالة داخلية معينة تجعل دماغك يتفاعل بشكل متغيّر وفق سياقات مختلفة.
نقطة أخرى أريدك أن تفهمها جيداً: الترتيب الذي يتلقّى من خلاله دماغك جميع المحفّزات مهم أيضاً. حاول أن تخوض معي تجربة سريعة: أغمض عينيك و حاول أن تلمس أداة من بين مجموعة من الأدوات أو الأجسام حولك. اللمس هنا قد لا يوفدك على الفور بما يكفي من المعلومات لتحديد ماهية الجسم أو الأداة في يدك. لكنك لو مسكته و تلمّسته بأصابعك، ستتلقّى المعلومات الكافية لتشكّل صورة ما عنه أو قد تتعرّف عليه مباشرةً.
مالذي أريده من ذلك؟
كما ذكرت سلفاً، يمكنك تصوّر الدماغ البشري على شكل صندوق أسود مع سلسلة من المدخلات و المخرجات. أعصابنا تزوّدنا بتصوّرات كاملة عن العالم حولنا. إذن الأعصاب هي مدخلات إلى الدماغ. و بالمثل، لدينا وسيلة وحيدة للتفاعل مع العالم، و هي المخرجات من أعصابنا لعضلاتنا. المخرجات من الدماغ البشري هي وظيفة ناتجة عن المدخلات و الحالة الداخلية للدماغ. أي كردّة فعل تجاه أي مُدخَل [Input]، فإن الدماغ البشري يغيّر من حالته الداخلية و ينتج [Output].
لنتجرّأ على طرح السؤال التالي: لو كانت وسيلتنا التفاعلية الوحيدة مع الواقع هي المدخلات [Inputs] التي نتلقّاها من الحواس و أفعالنا عن طريق الأعصاب الحركية هي المخرجات الوحيدة، إذن ماهو ”الواقع‟ تحديداً؟
عقلك مترابط مع جسمك، و لكنه من الممكن أيضاً أن يكون مترابطاً مع محاكاة رقمية، كما في فلم The Matrix. طالما كانت المخرجات من دماغك تنتج المدخلات المنتظرة و المتوقّعة، كيف ستعرف ما هو حقيقي و ما هو محاكاة؟
هذه طبعاً تجربة فكرية فلسفية تسمّى "دماغ في وعاء“، المصطلح مستمد من قصص الخيال العلمي التي يقوم فيها عالم بفصل دماغ شخص ما عن جسده و الاحتفاظ به في وعاء يحوي سائل يحتفظ بالحياة، و من ثم يقوم بتوصيل خلاياه العصبية عن طريق الأسلاك لكمبيوتر متطوّر من شأنه أن يزوّد الدماغ بنبضات كهربائية مطابقة لتلك التي يستقبلها الدماغ بشكل طبيعي. في التجربة بإمكان الحاسوب أن يحاكي حقيقة ما [بما فيها ردود فعل مناسبة لنتاج الدماغ]، و عندها فإن الإنسان الذي أزيل دماغه سيواصل بالشعور بتجارب حياتية طبيعية بلا علاقة بالأشياء و الأحداث التي تتضمنها في العالم الحقيقي. و هنا التساؤل يكمن حول إمكانية الشعور بالواقع حتى خارجه.
أحد المحاولات لنمذجة خوارزمية مباشرة من الدماغ البشري هي الشبكات العصبونية الاصطناعية. الشبكات هذه هي جزء صغير من أبحاث الذكاء الاصطناعي، و نموذج الشبكة العصبية يحاذي بشكل وثيق العديد من خوارزميات الـ AI.

الشبكات العصبونية الاصطناعية تختلف عن الشبكات العصبية في الدماغ البشري في عدم كونها أجهزة حوسبة تعالج أغراض و مهام عامة. وفقاً لتعقيدها الحالي، فهي تبرمج لتنفيذ المهام المحدّدة و الصغيرة جداً. خوارزمية الـ AI ”تعيش‟ واقعها من خلال إنتاج واقعاً بناءً على الحالة الداخلية للخوارزمية و المدخلات المستقبلة. "الواقع" الذي تتراكب عليه الخوارزمية قد يتغيّر إذا ما غيّر الباحث من تفاصيل الخوارزمية نفسها.
هذا النموذج من المدخلات و المخرجات و الحالة الداخلية ينطبق على معظم خوارزميات الـ AI. و بطبيعة الحال، بعض الخوارزميات تكون أكثر تعقيداً من غيرها.
يتبع..
Comentários