لماذا ترامب؟
- سيف البصري
- 16. Aug. 2016
- 7 Min. Lesezeit
إن كنت تتكلّم العربية، فنتيجة الصراع الانتخابي الأمريكي [لا يستحق كلمة سباق] تمس حياتك شئت أم أبيت، تقدّمياً كنت أو محافظاً. و رغم أن الموضوع يستقطب أكثر مما يقرّب الآراء، دعنا نمر على خلفيته بهدوء و نبدأ باليسار أولاً، صاحب الجزء الأكبر من كعكة النقد [إن كنت ليبرالياً، فلا تقلق، ليس ديدني تهميشك، بل تلخيص اعتراضي على الفكر اليساري اليبرالي، الذي كنت أتبناه يوماً]:

الصراع الآن هو خارج إطار السياق الحزبي. فالاختلافات لا تتمحور حول البرامج الإنتخابية، و لا حول شخصية Trump أو Clinton بقدر كونها أيديولوجية البعد، و هذا الاختلاف يعود نسيجهه التاريخي إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية.
لذلك حاول تفهّم أن الاتهامات الشخصية و فضائح الإثنين ليست بتلك الأولوية، لأن الأمر يتعلّق الآن بالسلطة و الأجندة التي يقف خلفها كل مرشّح. دعك من شخصهما، الإثنان لا يصلحان لهكذا منصب و سلطة، لكن هذا هو الواقع المفروض، لا نملك سوى التعامل معه.
خسارة الحرب العالمية الثانية فرضت قوة جانب على آخر و تم إعادة تعريف قوانين اللعبة العالمية. و إن كانت الفاشية النازية لا توازي في تعريفاتها اليمين كفكر فلسفي سياسي، لكنها حُسِبت عليه في النهاية، و التيارات اليسارية التي تبلورت بعد الحرب عمّقت بدورها هذا التعريف. و لذلك و منذ ذلك الحين و كلمة اليمين ملطّخة بكوارث منتصف القرن العشرين.
تمهّل، هذا لا يعني أن النازية ليس لها علاقة باليمين. لكن النقاش حول الموقف السياسي الدقيق للاشتراكية القومية الألمانية [النازية] لم يُدار بشكل دقيق. لو راجعت بزوغها التاريخي قبل ١٩٣٣ [أنصح بكتب المؤرّخين الألمانيين: Sebastian Haffner و Joachim Fest] فستجد للنازية مع الشمولية الستالينية قواسم مشتركة أكثر من تلك مع الفاشية الموسولينية. سأعطيك أمثلة على ذلك:
في إيطاليا العشرينات و الثلاثينات، كانت الفوارق الطبقية التقليدية لا تزال سائدة في المجتمع و لم تحظى باهتمام سياسي واضح و في إطار فلسفي، بينما في المانيا، هتلر ـ حاله كحال الاشتراكيين من مختلف الاتجاهات ـ عمل على الدفع بموقف المساواة الاجتماعية. حتى استحوذ على منصب المستشار بواسطة السبل الديمقراطية. بل حتى لم يسترجع الامتيازات التي تحلّت بها الطبقة الأرستقراطية قبل ثورة نوڤمبر ١٩١٨ [أبان الرايخ الأوّل]. تستطيع كذلك البحث عن الجمل المعادية للرأسمالية في بعض خطاباته عن "الشوق المناهض للرأسمالية".
تجسّد الطابع الأيديولوجي اليساري في سياسة هتلر حتى في أسماء التنظيمات و الدعايات الشبابية التي تغنّت بالـ Fraternité.
ببساطة، غيّر هتلر مفهوم ماركس للـ"مجتمع اللا طبقي" بـ "مجتمع الشعب" [Volksgemeinschaft] و روّج لهذا المصطلح، الذي مازال يبدو و كأنه اشتراكي و مخيف، كنوع من الاحتفال بالأخوية المستمر.
مع ذلك، و رغم استمرار تجربة القمع الشيوعي في الاتحاد السوڤيتي، إلا أن اللوم ظل يلقى بشكل أو آخر على سياسات اليمين. هذا الطمس الفكري الذي مارسته فلسفة الحداثة السياسية و مؤسساتها السياسية على المستويين العالمي [الأمم المتحدة] و المحلّي [خصوصاً أوربا و الولايات المتحدة] مهّد في ستينات و سبعينات القرن الماضي لبزوغ تيارات الـ Hippies الشبابية المنتفضة حتى على ذاتها. بل عبّد الطرق لهيمنة اليسار على رسم ملامح السياسات الأكاديمية و تدخّل الحكومة بشكل أكبر في تخطيط حياة الأفراد، كثمن لـ"حرّية" الإنتخاب الديمقراطي. من السذاجة طبعاً أن نعمم على كل سياسات الحداثة التقدّمية، لكنها بدأت تمس جوهر استمرار المجتمعات البشرية و بدأت تنتفض حتى على قوانين الطبيعة و هذا بدأ يقلق الملايين بشكل مخيف. لربما في المجتمعات العربية هي ليست حاضرة، لكن في أوربا لا تستغرب إن وجدت من يعتبر أن الفارق بين الذكر و الأنثى هو مجرّد أدلجة اجتماعية. بالمناسبة، هنالك نسويات عربيات تبنينْ نفس الطرح في العالم الرقمي.
لكن الأرقام مخيفة فعلاً: مستوى الولادة في المجتمعات المتقدمة و الذكية مستمر بالانخفاض الشديد للعقد الرابع على التوالي. بمعدّل ولادة ١,٤ طفل، هذه المجتمعات مهددة اقتصادياً و اجتماعياً من الاستمرار. من سيغطّي تكاليف التقاعد و يسد ثغرة الأيدي العاملة؟ استيراد اللاجئين مثلاً، كما يريد اليسار؟
في أوربا الغربية، نسبة الجرائم التي يشاطرها الأجانب تزيد عن النصف مقارنةً بالسكان المحليين. هنالك تباين بين الثقافات يقف كعائق يجب فهمه، لا إنكار وجوده. لكن دعنا من الاندماج الاجتماعي، هذه مشكلة اجتماعية تحتاج لوحدها تفصيلاً طويلاً.
◀︎ كينونة الأسرة تتعرض لحملة تهميش فكرية و محاولة لهز دعائم نواة المجتمع بشكلها التقليدي الذي نجح و استمر على مر آلاف السنين و عند مختلف الإثنيات.
◀︎ النسوية التي تحارب الرجل حتى في كيانه و تخوض حرب شرسة في تهميش دور المرأة كمركز في نواة المجتمع، و تبديله بـ أنوية تهتم بالمال و السلطة أكثر من السعادة و المجتمع.
◀︎ السياسة القمعية للصواب السياسي الـ political correctness التي تكمّم الأفواه و الآراء الناقدة للسائد و المسلّمات السياسية. سام هاريس قال مرة في حواراته: "بكل بساطة: نحن لا نملك سوى خيارين، إما الحوار أو الاقتتال". و عليه، إن لم نفسح المجال للمرونة في امتصاص الآراء الصادمة و المعارضة لمنظومتنا الفكرية، فسنصاب بالتصلّب الفكري. هذا لن يخلق أجيال ذكية و نضاجة في الحوار. و بالطبع هذه مفاهيم ليست جديدة، لكنها للأسف مازالت عائقاً.
آلان تشارلز كورس، بروفيسور متخصص في التاريخ في جامعة بنسلفانيا، يربط السياسة القمعية للصواب السياسي بالفيلسوف الماركسي هيربرت ماركوزه. تحليله قابل للنقاش، لكن فحواه أن الأفكار الليبرالية عن حرية التعبير هي قمعية بحد ذاتها، بحجّة أن هذا "المنطق الماركوزي" هو قاعدة حول رموز التعامل و الكلام في الجامعات الأمريكية [بل حتى الأوربية] و التي يراها البعض على أنها نوع من الرقابة التي تجهض الحوار قبل أن يبدأ، و هذا بصراحة عائق كبير. الحقوق مثلاً ليست شيئاً مطلقاً لا يقبل النقاش، و لا الحقوق الإنسانية هي نازلة من السماء، بل هي متفقات تتباين أحياناً. لذلك تجد الليبراليين لا يفسحون المجال حتى لنقاش فكرة المساواة، التي لوحدها بحاجة لمقالة كاملة. إن انتقدت مفهوم المساواة، فلن تمر أجزاء من الثانية و تجد المقابل يصفك بالعنصري. لاحظ أن الفكر التقدّمي المساواتي لا يستنزف الكثير من الطاقة الفكرية، لأن مصطلح المساواة يدغدغ العاطفة أكثر من العقل و يضمر الاختلافات، لكن الثمن يدفعه الشخص المثابر و الذكي في مجاله. لذلك تجد أن كلمة "استحقاق" أصبحت تقتصر على العرق أو الطائفة بدلاً عن الجهد المبذول. المساواة هنا تختزل التفكير و تبسّط الأمور. دعنا من الفكرة نفسها، لكن صدقني في الحوارات التلفزيونية و الصحفية في أوربا اليوم، من الصعب جداً أن تخرج بتصريح مفاده ينتقد فكرة المساواة Égalité دون أن يقذفك الخصوم بالعنصرية و الطبقية. هنالك بيئة مخيفة تهدد حرية التعبير، و هذه نقطة كارثية لو تُرِكَت دون نقد.
◀︎ التساهل مع الإرهاب و عدم تسميته خلف إطار دمقرطة العالم الثالث، أصبح أمراً يصعب تجاهله، بغض النظر عن الثمن الباهض الذي دفعته شعوب الشرق الأوسط من الملايين من الضحايا. ناهيك عن الخراب الاقتصادي و الفوضى التي مهّدت لظهور داعش و الميليشيات المتطرّفة. من برأيك قام بتسليح الميليشيات الإسلامية في سوريا و لم يتعلّم من أخطاء أفغانستان و الاقتتال مع السوفيت؟
سياسة الولايات المتحدة تتمحور بشكل فضيع حول مصالحها، و هي سياسة متوقّعة لدولة بهذا الحجم و القوة، لكنها أخطأت بشكل كارثي في العراق و ليبيا و أفغانستان و سوريا. بعيداً عن لعب دور الضحية، لكن الملايين من البشر، أغلبهم من الشباب، دفعوا الثمن بأرواحههم، و مجتمعاتنا اليوم هي بؤرة تعاني من كل المشاكل الاجتماعية التي تستطيع تخيّلها. نعم نحن لنا أيضاً يد في ذلك، و نتحمّل جزءاً كبيراً، فالصراع السني الشيعي لم تخلقه حكومة بوش أو نتنياهو، بل جذوره تعود لأكثر من ١٤٠٠ سنة و نصوصه المقدّسة لم تُستمد من كتب الكوميك.
◀︎ الديمقراطية الليبرالية هي نظام يحترف الترويج لنفسه عن طريق التذكير بأن كل من يخالفها هو على جانب التوتاليتارية الديكتاتورية. أصبحت مثل الإله المقدّس الذي جاء لكل البشر. لكننا نشهد فشلها في العديد من النواحي أيضاً. هنالك مشاكل عديدة تتجسّد في قصر التنظير للمشاريع و التركيز على المشاريع القصيرة الأمد من أجل الفوز بالأصوات في الأدوار الإنتخابية [غالباً كل ٤ سنوات] و التناحر الحزبي و التشتت السياسي الذي يبطء من عجلة التقدّم. هي تنزف و ليست ذلك الإله المحمود فعلاً! مشروع دمقرطة الشرق الأوسط لربما هي أفشل أجندة سياسية عالمية تم التنظير لها على مر التاريخ. و هيلاري كلينتون هي جزء من هذه الأجندة، اختيارها لن يغيّر للعربي من الواقع، في حين ترامب يقر [بغض النظر عن صدقه] بالخطأ الأمريكي و هو تستطيع أن تعتبره الفوضى اللازمة لتغيير مسار السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصاً و أنه يجابه الإسلام السياسي و لا يتعاطف معه، كما يفعل التقدّميون، و هذه نقطة حاسمة تحسب ضدهم.
مع ذلك، هي أفضل من الأنظمة القمعية و الشمولية. لكن هل تعلم أن الدراسات التي تعنى بمستوى السعادة و التمتّع بحرية و حقوق جوهرية تظهر لنا أمثلة لدول أفضل من الليبرالية الديمقراطية، و هي تلك التي ما زالت تحتفظ بنظام ملكي دستوري مثل بلجيكا، النرويج، الدينمارك، هولندا؟ بالطبع هي تمتزج بسياسات ليبرالية، لكن بيت القصيد، هو أن الأنظمة هذه تحتاج التأقلم مع تطوّر المجتمع السريع، بالأخص التطوّر التقني و التعلّم من أخطاء الماضي. تحتاج فهم ضياع دور القدوة و القائد و تبعاته. لاحظ السويد مثلاً، دولة أهرمتها سياساتها الاجتماعية الحاضنة و نظامها المعاشي الذي استقطب الكسل و البطالة، بغض النظر عن تراكم الأجانب و اعتمادهم على المعونات الاجتماعية دون أي وجهة مستقبلية واضحة، الشيء الذي يثير سخط السكان المحليين طبعاً.
حتى الفن أصبح بليداً لدرجة لا تطاق. ساحات المدن التاريخية تجد فيها الآن لفة الهمبرگر بحجم كبير بدل الشخصيات التاريخية و الرموز الحضارية. الرأسمالية تنهش و تعيش على السلوك الاستهلاكي النرجسي في مجتمعات تهتم لدرجة مفرطة بالمظاهر و الشكليات. الفلسفات الكلاسيكية و حكم الماضي لم تجد دورها في صقل أجيال المجمتع، بل تركناها للمطربين و الراقصين و لاعبي كرة القدم.
تذكّر، عندما تتجاوز الدولة ـ التي تدّعي الحرية و التحلّي بالقيم الليبرالية ـ الحوار حول هذه المشاكل الاجتماعية، فلن نتعجّب عندما نجدها تخاض في الأطراف السياسية و الأجنحة المتطرّفة.
ظهور حركات اليمين المتطرّف هي ردة فعل على استهزاء بعدد كبير من الجموع الرافضة للسياسات المحلّية، بل أن الموضوع لم يعد يقتصر على الاجنحة. الآن غالبية الأوربيين مثلاً يرفضون سياسة الإتحاد الأوربي فيما يخص اللاجئين و تقييد سلطات الدول العضوة و ارتياد الثوب الأخلاقي الأسمى أمام الآراء المعارضة.
هذا ينقلني إلى اليمين، الذي من جانبه اعتمد تاريخياً على ورقة الأزمات. لا شك، السياسة لعبة قذرة تتيح للسياسي استخدام كل السبل المتاحة. منها اللعب على الوتر العاطفي و تحشيد الجموع الغاضبة. بالإضافة إلى مواقف اليمين الأمريكي المحافظ السلبية تجاه الأبحاث العلمية و معاداتهم الإجهاض بشكل تام [رغم أننا نواجه إفراط بشع في هذا الموضوع و ليس دائماً لأسباب طبية ] و معاداتهم للمثلية [رغم أن الطرف الآخر يبالغ بدوره أيضاً و يعتبر الأمر طبيعياً جداً لدرجة منحهم حقوق التبني، الشيء الذي يثير دهشة الأطباء النفسيين و التربويين، لكنه في النهاية جزء من الحرب على الأسرة التقليدية]، و تحالفهم مع الكنيسة و الدين بشكل عام على حساب حقوق الفرد. من المضحك أن الكثير من المحافظين اليمينيين أصبحوا يتبنون نفس الأفكار التي تروّج لها التيارات التقدّمية من أجل الحظي بأصوات انتخابية أكثر، ما يسمّون بالـ Cuckservatives في بعض الأوساط الرقمية.
الفكر المحافظ عموماً ينظر إلى الواقع بعمق ماضوي و بعد مستقبلي أطول، لأن الأجيال تتوالى و تتبدّل، لكن الحكمة، و هذا مصطلح مهم جداً في صياغة سياسات ترسم مستقبل الأجيال، تقتضي تراكم الخبرات و التجارب على مر الأجيال. الفكر التقدّمي هو أقرب للشباب، لأنه يبغض الهرمية و الشباب عموماً لا يدركون أهمية هذا النظام، الذي كان سبب نجاحنا في البقاء و الاستمرار، إلا في عمر ناضج، خصوصاً و أن الكثير ينتفضون على الهرمية عندما تكون حاضرة بقوة في الوسط الأسري و التربوي، الأمر الذي قد يفسّر هذا النفور. هذا لا يعني، أن كل فكرة تقدّمية هي خطأ، هذا ليس المقصود هنا، نحن بحاجة لجرعات تتجرّأ على المجازفة و التطلّع، لكن لا على حساب أعمدة المجتمع.
الآن لماذا يعوّل المحافظون على ترامب؟
السباق هو على المستوى الأيديولوجي، لا على المستوى الحزبي. نعم، دونالد ترامب لا يملك برنامجاً واضحاً، و هيلاري أكثر منه دهاءً في لعب الخدعة السياسية [خبرتها تفوق الـ ٣٠ سنة]، لكنه يمثّل أجندة تسلّط الضوء على أكبر مشاكل الحداثة، و هذا ما يهم الآن:
الخراب في الشرق الأوسط و مشروع الدمقرطة
النسوية المتطرّفة و الحرب ضد مفهوم الأسرة التقليدي و الانتفاض على المسلّمات الطبيعية
السياسة القمعية للصواب السياسي
التساهل مع و تدجين الإرهاب السياسي
هنالك جملة ألمانية ساخرة تنص: "أنت أمام الاختيار بين الجرب و الكوليرا." ترامب هو بالنبسة لنا كعرب، الخيار البرغماتي الأمثل.
Commentaires