top of page

عديم قلب من لم يكن يساريًا في فُتوّته، بليد عقل من لم يكن محافظًا بعد بلوغه

  • سيف البصري
  • 1. Aug. 2017
  • 4 Min. Lesezeit

قالها لي رجل جهبذ قبل فترة من الزمن ... [لا تأخذ الجملة بشكل حرفي]

قد لا يستعصي عليك فهم العنوان، لكن القصد خلفه قد يثير في داخلك بعض التساؤل. إن كنت تميل إلى اليسار، لا تقلق، لست هنا لتهميشك، بل لأفهمك وأكشف عن ما فهمته، وما خسر من حاول فهم خصمه، لذلك تريّث معي قليلاً. ليس لأنني قرأت وتابعت ثم توصّلت لنتيجة، بل لأنني كنت يومًا ما أميل إليه، فلربما تكسب شيئًا مما أكتب، و إن كان العكس، أنتظر ردك.

أنا أحاول أن أرسم لك الصورة التي أنظر إليها عندما أحاول فهم الفكر الثوري و النضال السياسي، خصوصًا عندما أشهد انجذاب شريحة الشباب للشيوعية والحركات المساواتية الثورية بغض النظر عن الإثنية أو الجنس.

لن أتطرّق للنزال الفكري بين مؤيدي الشيوعية وبين الرافضين لها، لأن فهم أسباب صمود مثل هكذا أفكار غير ناجحة عمليًا [على الأقل ما قد يتفق عليه بعض الطرفين وهذا ما استنتجه من القرن العشرين] يحتاج إلى وقفة لفهم العلاقة خلف هذا الانجذاب.

بجملة واحدة؟ علاقة الثورة والشباب هي كعلاقة النار والحطب، والفكر الذي يعوّل على النار، يحتاج الحطب.

سأوضح أكثر:

لو سألت نفسك، مالذي تهدف إليه الثورة؟ مالذي يشعل فتيلها؟ التغيير؟ البداية الجديدة؟ الصمود؟ الطغيان؟

مرادفات الكلمة في العربية قد تكشف عن العمق النفسي لأصل الكلمة: ثار، هاج، هبّ، احتدّ، اغتاظ، انفعَل، غضب، ماج. برأيك، ما أهمية الثورة بدون طغيان؟ بدون قتال مستمر؟ بدون حالتي تمرّد وتغيير دؤوبتين؟ هل سنحتاج للثورة وقادتها بعد مرحلة الصفر؟ هل سبق وأن قرأت في التاريخ عن ثورة وأدت نفسها حية بعد أن حققت غايتها؟ ابن الثورة الفرنسية جورج جاك دانتون ـ الذي خلّده الكاتب الألماني فريدريش شيلر في رواية شهيرة جسّدت بعض المحطّات الدموية للثورة الفرنسية ـ قال وهو أمام مقصلة الإعدام: "إن الثورة تأكل أبنائها"، مستكملاً المثل الفرنسي القائل "من السهل أن تبتدئ الثورات ولكن من الصعب أن تنهيها بسلام". حتى من أمر بقصاصه [روبسبيار، أحد سفّاحي الثورة] لم يفلت رأسه من المقصلة. أنا هنا لا أرفض الانتفاض على الظلم، على العكس، لكن هنالك ثورة كـ"وسيلة" للانتفاض، وهنالك ثورة كـقاعدة "أيديولوجية". الأخيرة هي ما أخشاها وأعاديها، لأنها تعادي الاستقرار والبناء على المدى الطويل. كيف؟

الثورة تحتاج إلى الحطب لتلهب، لتشعل قلوب الأجيال القادمة، وهي لن تكتفي بالتهامهم فحسب، بل تحمل في باطنها نواة التمرّد والانتفاضة. فالاستقرار يخمد لهيبها والاطمئنان يتفه نورها، لذلك لو لاحظت، الفكر الثورچي يعشق الالتفاف خلف الأفكار المثالية، لأن المثالية تحتم دوام لهيب الثورة. البارحة كان رغيف الخبز، اليوم حقوق المتحوّلين، وربما غدًا حقوق الروبوتات أو الحشرات المضيئة ليلاً…

أمزح معك، هنالك شوارع في أوربا لا يسمح فيها بتجاوز سرعة معيّنة حوفًا على الحشرات. أتكلّم بجد.

دعك من ذلك، لندخل في صلب التحليل: أنا أجد علاقة سببية بين اليسار/الفكر الثوري، وبين الشباب. سأتناول هذه العلاقة بشكل نقاط أعلل في كل واحدة منها السبب المحتمل:

☚ الشباب غالبًا ما تجذبهم الحداثة والتجديد. كبار السن، على العكس وفي الكثير من الأحيان، يحذرون التجديد. لأن البناء [العائلة، المؤسسات] يشترط الاستقرار والرؤية المستقبلية، وهذان بدورهما بحاجة ماسة إلى واقع يمكن فهمه والتنبّؤ بمستقبله. هذه الرؤية نفسها تتبلور مع تراكم التجارب والخبرة، وبالتالي فهي مفقودة عند الشباب، مما يجعلها المانع الغائب في وجه التجديد المستمر. قد لا تكون الطبيعة و الساعة البايولوجية الدافع الأكبر وراء ذلك، لكنها حتمًا تلعب دوراً ما.

☚ ذكريات الأجيال الأكبر سنًا تجعلهم يرغبون في نموذج اجتماعي لن يتكرر مرة أخرى. الشباب بدورهم لا يتحملون هذا العبء، والعالم الوحيد الذي يعرفونه هو الذي عرفوه وولدوا فيه. لذلك الثورة على التقاليد هي تعبير صريح عن ذلك.

☚ يواجه الشباب اليوم العديد من العجائب الفكرية الجديدة والمحطّات التكنولوجية كل يوم، والكم المعلوماتي يتسارع بشكل لا يستوعبه أحد، وهنالك الكثير ما يدفع بهم للقلق، خصوصًا وأنهم لا يمتلكون الوقت الكافي لتأمّل هذه التنوّعات وذلك الكم الشاسع من الجديد والمتغيّر. هذا التراكم ثقيل على وعي الأجيال الحديثة وتبعاته يجب أن تؤخذ بالحسبان. لنفترض أننا عرضنا الشباب اليوم على ثقافة قروية تخرج جثث الميتى من قبورهم كل ما مر عقد من الزمن ليرقصوا معهم ويحتفلوا بهم [هنالك قبائل أفريقية تعيش هذه التقاليد فعلاً]. بغضّ النظر عن موقفهم من الفكرة، هضم الثقافات والتقاليد المختلفة يتطلّب قراءة تاريخية واستيعاب متكررين، وهذان يستغرقان أحيانًا عقودًا من الزمن، وبعضها قد لا ينتهي أبدًا. برأيك هل تظن أن الجيلين الأخيران استوعبا النكسة الاقتصادية العالمية مثالًا؟ أو السبب الفعلي خلف انهيار البورصة؟ أنا أتحدّث عن الوعي العام بالأخص.

☚ في أوربا مثلاً، تجد أن العديد من الشباب قد نشأ مع الأطفال المهاجرين [خصوصًا وأن المهاجرين لديهم معدّل خصوبة أعلى نسبيًا]، و هم أكثر دراية بتلك الثقافات من الأجيال التي سبقتهم. لكنني هنا لا أقصد ثقافة الهوية، بل معرفة سطحية لا تستوعب الإطار التاريخي والأخلاقي بشكل تام و لا تقارنه مع الثقافة المحلّية بماضيها وحضارتها. لذلك يجدون صعوبة في تبنّي أفكار تريد حصر الإطار الثقافي، وبالتالي يلجأون إلى سياسات عولمية منفتحة كردة فعل.

☚ شريحة الشباب شريحة تحسب إلى غرباء المجتمع، حيث أنهم لا يعتلون مراكز القرار ولا يتحلّون بالقوة الاقتصادية بعد، وبالتالي فهي شريحة تميل إلى سياسات تستأنس الغرباء أكثر من غيرها وتستعطف أكثر من قابليتها على التحمّل. حتى تصبح مطلّعة، حينها تريد سياسات للمطلّعين.

☚ الشباب الذي يقرأ نصوص الفلسفة اليسارية [المناهج الجامعية لا تخلوا من نصوص هيربرت ماركوزة ورواد مدرسة فرانكفورت، أو أدبيات النضال الثوري] مهووس بالاندماج الاجتماعي بين أقرانه، وهو حوّل الكثير من الشباب إلى منبذين اجتماعيين تجاه كل من يملك أفكارًا غير مطابقة لعالمهم. هذا ما فسح المجال لبزوغ حركات الصواب السياسي المؤدلجة و الـ SJWs. خصوصًا وأن ديدن الأدب الفلسفي ما بعد الحرب العالمية الثانية كان يتمحور حول توبيخ ضمير الأجداد وتحذير الشباب من السكوت وحثّهم على الانتفاض في وجه المجتمع. فتوبيخات أدورنو طالت حتى الشعراء في خمسينيات القرن الماضي كونهم تجرّأوا على الابتسامة للحياة رغم فاجعة الهولوكوست. [هذه الفترة شهدت بزوغ عقول أدبية في أوربا، خصوصًا في المانيا، تنظر بصورة إيجابية نحو مستقبل واعد وإعادة البناء]. وبالتالي هم على تماس عاطفي مباشر مع شؤون المجتمع، ويفهمون أنفسهم كفرسان مناضلين من أجل حقوق الآخرين، وهو ما يبعث في داخلهم شعورًا بالأهمية والغاية النبيلة.

☚ طبيعة البشر الاندماج والتأقلم بأقل حجم ممكن من الخلافات. الشاب خصوصًا يكون في مرحلة اكتشاف وبناء ذاته. موارده ضئيلة وخبرته خجولة، على الجانب الآخر من المعادلة، رغبته في أن يحظى بالاعتراف والتأييد تكاد تصل الحاجة القصوى، لذلك لا أستغرب هيمنة أفكار تروّج للتساوي، الجموعية والحرية المطلقة، لأنها تحقن شغفهم بالهدوء وتقلل من حدة الخلافات مسبقًا. الناضج عمرًا يكون قد تجاوز مرحلة البحث عن هوية جديدة على أنقاض الماضي، ويبدأ بتوطيد مؤسساته. لنعد إلى ما قبل السطرين الأخيرين: الحاجة القصوى للاعتراف تعني الكثير ودورها في صقل نرجسية الإنسان لا يمكن الاستهانة به. لأن الثورة والنضال يتاجران بمثاليات تطفئ ظمأ الحاجة هذه. إنه ما قد يسميه البعض عنفوان الشباب: طاقة استثمرتها الثورات كحطب على مر التاريخ، حتى يومنا هذا.

أنا لا أكتب من باب التنديد بالشباب، بالعكس، هم طاقة ومستقبل شعوب، لكن مصدر قوّتهم هو مصدر ضعفهم في نفس الوقت.

Comments


bottom of page