كل ما تراه حولك هو فوتوشوب معقّد و مُتقَن داخل دماغك
- ٍStanislas Dehaene | ترجمة: سيف البصري
- 6. Sept. 2017
- 4 Min. Lesezeit
هذه المرة سنتناول مقتطفاً عن آلية المعالجة البصرية الرهيبة للدماغ من كتاب ستانيسلاس دهاين، عالم أعصاب و رياضياتي مرموق، "الوعي و الدماغ ـ فك رموز و فهم كيف يشفّر الدماغ أفكارنا." Consciousness and the Brain: Deciphering How the Brain Codes Our Thoughts. الكتاب ليس متوفراً بالعربية بعد، لذلك سأحاول في الأيام القادمة أن أترجم مقتطفات أخرى من كتابه. "في السنوات العشر الماضية، تم تكرار العديد من التجارب حول المؤثرات التي تكون تحت عتبة إدراك الحواس: كالرسائل المخفية في وسائط تقنية مثل الفيديو أو الصوت أو الرسوم المتحرّكة - ليس فقط للكلمات المكتوبة و لكن أيضاً للوجوه، الصور و الرسومات. المئات من تلك التجارب أفضت إلى استنتاج مفاده أن ما نعيه و نعيشه كمشهد بصري واعي هو صورة عالجها الدماغ بشكل محترف جداً، يختلف تماماً عن المدخلات الخام التي استمدها الدماغ من العينين.
نحن لا نرى العالم كما تراه و تنقله شبكية العين. في الواقع، لو تخيّلنا الصورة الأصلية، فسيكون مشهد الصورة مرعباً أكثر مما قد نظن: مجموعة بكسل مشوّهة و فوضوية للغاية بين الضوء و الظلام، تهبّ نحو وسط شبكية العين، ملثمّة بالأوعية الدموية مع ثقب هائل في موقع »النقطة العمياء« حيث تغادر الكابلات [العصب الرئيسي للعين] جوف العين داخلةً إلى الدماغ. الصورة سوف تطمس باستمرار و تتغيير كلّما تشتت نظرنا أو تغيّرت نقطة تركيزه. لكن ما نراه بدلاً من ذلك، هو مشهد ثلاثي الأبعاد مُصحَّح من عيوب الشبكية و البقعة العمياء و متناسق مع حركة العين و الرأس. إضافةً إلى ذلك، فإن دماغنا يعيد تفسير المشهد الآني على نطاق أعمق استناداً إلى تجاربنا السابقة من مشاهد بصرية مماثلة. كل هذه العمليات تحدث بشكل غير واعي و أسرع من أن تستوعبه. بعض هذه التعديلات الدماغية معقّدة بشكل يجعلها تستعصي النمذجة عن طريق الكمبيوتر. على سبيل المثال، يكشف نظامنا البصري عن وجود ظلال في الصورة أسفله و يزيلها في نفس الوقت. في غضون لمحة، يستدل دماغنا بشكل غير واعي عن مصدر الأضواء و يستنتج الشكل، التعتيم، انعكاس الضوء و الإنارة. خدعة رقعة الشطرنج في الصورة أسفله هي أحد أشكال الخداع البصري، نشرها إدوارد أديلسون أستاذ علم البصريات بمعهد ماساتشيوست للتكنولوجيا، و هي عبارة عن صورة ثلاثية الأبعاد لرقعة شطرنج فيها مربّعات مضيئة و أخرى مظلمة، و هذه المربّعات مظللة جزئياً بجسم اسطواني.

معالجات بصرية و حسابات عالية تحدث خلف وعينا. إلقي نظرة سريعة على هذه الصورة: سترى رقعة شطرنج طبيعية المظهر. ليس لديك شك في أن المربّع A معتم و المربّع B زاهي السطوع. يكمن الخداع البصري في هذه الصورة في ظهور المربّع A كما لو كان أغمق من المربّع B، إلا أنه عند استخدام صورة ثنائية الأبعاد فإن كلا المربعين يظهران بصورة متطابقة (نفس اللون بنفس الدرجة)، أي أنها تطبع بنفس الكمية و الدرجة من الحبر. (تحقق من ذلك عن طريق قص كلا المربعين عن المربعات المحيطة، ستجد أن اللونين متطابقان) كيف يمكننا أن نفسر هذا الوهم؟ في جزء صغير من الثانية، يوزّع عقلك المشهد دون وعي إلى أجزاءه، يقرر أن الضوء يأتي من أعلى يمين، أن الاسطوانة تلقي بظلالها على متنصف الرقعة و بالتالي يطرح هذا الظل من الصورة، مما يعطيك الانطباع أن الألوان الحقيقية للجانب الخاضع تحت الظل تختلف عن الأخرى. فقط النتيجة النهائية لهذه الحسابات المعقّدة تدخل إطار وعيك. في الصورة الأخرى قمت بقص المربعين بمعزل عن الرقعة: المربعان يمتلكان نفس اللون.

كلما فتحنا أعيننا، تحدث عملية موازية بشكل عميق في القشرة البصرية [الجزء الخلفي من الدماغ المسؤول عن معالجة الرؤية و ما تنقله أعصاب العين من بيانات]، و نحن لا نعي ذلك أثناء حدوثه.
دون أدنى فكرة عن عمق المعالجة الدماغية التي تمكّننا من الرؤية، يظن الكثير منا أن الدماغ يعمل بشكل مكثّف و عالي فقط عندما نشعر نحن أننا نعمل و نفكّر بتركيز عالي. على سبيل المثال، عندما نقوم بحل مسائل الرياضيات أو نلعب الشطرنج. أغلبنا ليس لديه أي فكرة عن مدى التعقيد و المعالجة البصرية التي يقوم بها دماغك وراء الكواليس لخلق هذا الانطباع البسيط من العالم البصري السلس.
لعب الشطرنج دون وعي
لكي تعي حجم قوة رؤيتنا اللاواعية، تأمّل لعبة الشطرنج. عندما يركّز الأستاذ الكبير غاري كاسباروف على لعبة الشطرنج، هل تعتقد أن دماغه يتابع ترتيب القطع بشكل واعي و مستمر من أجل أن يلاحظ، على سبيل المثال، أن القلعة السوداء تهدد الملكة البيضاء؟ أو هل يمكنه أن يركّز على الخطة الرئيسية، في حين أن نظامه البصري تلقائياً يقوم بمعالجة المواقع الاستراتيجية بين القطع؟
في الواقع، أثبتت الأبحاث أن لمحة واحدة كافية لأي أستاذ كبير في الشطرنج لتقييم رقعة الشطرنج و تذكّر تكوينه في التفاصيل الكاملة، لأنه تلقائياً يوزعه إلى قطع ذات مغزى و دور ما.
علاوة على ذلك، تشير تجربة حديثة إلى أن عملية التجزئة هذه تحدث خارج إطار الوعي فعلاً: في التجربة يمكن أن تومض صورة لـ تشكيلة لعبة شطرنج مبسّطة لمدة 20 ميلي ثانية، محصورة بين أقنعة صورية تجعلها غير مرئية في إطار البصر الواعي، و رغم أن لاعب الشطرنج لا يعيها، فهي تؤثر على قراره [لاعب الشطرنج في التجربة يشاهد المؤثرات و الصورة الخفية للتشكيلة من خلال شاشة تعرض أمامه. فالإنسان يستطيع أن »يعي« فقط الصور التي لا تظهر له بشكل سريع جداً، ما فوق الـ ٥٠ ميلي ثانية تقريباً].
التجربة تنجح فقط مع لاعبي الشطرنج الخبراء، و فقط إذا كانوا أثناء حل مشكلة أو لغز يستدعي التركيز، مثل تحديد ما إذا كان الملك في موقف خطر. و هذا يعني أن النظام البصري يأخذ في الاعتبار هوية القطع (القلعة أو الحصان) و موقعها، ثم يربط بسرعة هذه المعلومات إلى قطعة ذات مغزى ("الملك الأسود مهدد بالـ كش ملك"). هذه العمليات المعقّدة تحدث تماماً خارج إطار الوعي".
Comments