top of page

رتّب الأفكار في موسوعتك أولاً: ماذا نعني بالليبرالية أو السياسة المحافظة؟ الكلاسيكية أو الديمقراطية

  • سيف البصري
  • 8. Sept. 2017
  • 7 Min. Lesezeit

قبل أن استهل بالتوضيح و التمييز بين المصطلحات التي ذكرتها في العنوان أعلاه، حاول كقارئ عربي أن تتقبّل أن السياسة العربية بشكل عام تستورد و تخلط المزيج المحلّي الخاص بها منذ قرون من الزمن بدل أن تساهم في صياغة التاريخ السياسي الحديث. بالطبع، ظروف المناطق العربية استثنائية و هي ضحية لأيديولوجية قديمة و مهيمنة حتى اليوم، بغضّ النظر عن الاستعمار، الحروب و التدخّلات و التقسيمات التي أنهكتها على مدى القرون الماضية. من باب، أنا أتهم القارئ العربي العام بعجزه عن التمييز بين المذاهب السياسية الرئيسية، و من باب آخر أعذره، لأن واقعنا السياسي و الاجتماعي لايفسح المجال للإنسان بأن يجد الوقت اللازم و المزاج الصافي للدخول في هكذا تفاصيل قد تبدوا مملة للكثير و ربما محبطة للبعض الآخر. سأحاول هنا وضع حجر الأساس لكي تفهم السياسة العالمية أكثر في حالة كونك لم تتعمّق في الموضوع بعد، لأنك شئت أم أبيت مقيّد بالظروف الاقتصادية و الحروب و الاتفاقيات العالمية. العولمة و التقنية غيّرتا قوانين اللعبة. من الذكاء أن تحاول فهم العالم حولك كي تتجنّب الوقوع في مشاكل كثيرة و تقليل نسبة الخطأ. لذلك لن أتحيّز لأي مذهب في الطرح و سأكتفي بالتركيز على الأسس الجوهرية التي تميّز مذهباً سياسياً عن الآخر و تفاصيل الفلسفة السياسية التي تشكّل القاعدة التشريعية لتلك المذاهب. قبل أن نبدأ، دعنا نتناول تعريفي المذهبين المحافظ و الليبرالي بشكل مقتضب: السياسة المحافظة Conservatism[من اللاتينية: conservare = "حفظ" أو "الحفاظ"] هي مذهب سياسي يشير إلى الفلسفات السياسية و الاجتماعية التي تعزز الحفاظ على المؤسسات الاجتماعية التقليدية و بقاء الوضع الراهن مع القليل من التغيير الحذر، فهي تعتبر الاستقرار شيء ثمين و يجب أن يتم التغيير بشكل تدريجي من أجل الحفاظ عليه. الفلسفة السياسية المحافظة يمكن وصفها بـشكل بسيط و غير مفصّل بأنها حالة ذهنية و فلسفة سياسية تنفر من التغيير السريع و الابتكار، و تسعى جاهدة لتحقيق التوازن و النظام، و في الوقت نفسه تتفادى التطرّف. بشكل عام تفضّل التسلسل الهرمي على المساواة و القيم الجماعية على الفردية. هي سياسة ظهرت كـ رد فعل ضد الأفكار الليبرالية التي بدأت تترسخ في أوروبا خلال الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. في المقابل، يواجهها كمذهب السياسة الـتقدّمية، التي تعرّف نفسها كـ فلسفة سياسية تمضي إلى التقدّم و التحرر من الماضي كجزء من تطوّر المجتمع و تصارع لصالح الإصلاحات التدريجية الاجتماعية، السياسية و الاقتصادية عن طريق حكومة كبيرة تتدخّل في فرض تلك الإصلاحات. هذا المذهب يمكنك أن تضعه في خانة اليسار في الطيف السياسي. الطيف الأكثر تطرّفاً في المطالب هو ما يوصف بالـفكر الثوري اليساري، فالأخير يرفض المنهج التدريجي و يطالب بالثورة. على عكس المذهب المحافظ، تفضّل التقدّمية المساواة على التسلسل الهرمي و القيم الفردية على الجماعية. و الصراع بين الفكرين يدور في جوهره حول عقلانية الإنسان أو الفرد نفسه. فالفكر المحافظ لايثق بعقلانية الفرد و عدم تحيّزه، بعكس الليبرالية التي تبالغ في تقدير البشر كفرد حر و عقلاني في اختيار مصيره. لكن كما ستقرأ لاحقاً، الواقع أكثر تعقيداً و يتشابك كثيراً و يتباين حسب الوقت و المكان. سأتناول المزيج الشائع في الدول الغربية القوية كي تفهم الصورة أكثر: السياسة المحافظة الليبرالية Liberal Conservatism

[لا ينبغي الخلط بينها و بين السياسة المحافظة الليبرتارية]

السياسة المحافظة الليبرالية هي أيديولوجية سياسية تجمع بين السياسات المحافظة و المواقف الليبرالية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية و الاجتماعية، أي بكل بساطة سياسة محافظة متأثرة بشدة بالليبرالية [كما هو الحال في بعض دول أوربا الغربية].

تشمل السياسة المحافظة الليبرالية النظرة الليبرالية الكلاسيكية Classical Liberalism [من روادها آدم سميث، ديفد هيوم و فولتير] للحد الأدنى من التدخّل الحكومي في الاقتصاد؛ حيث يؤمن الليبراليون الكلاسيكيون أن تحرير السوق من التدخل الخارجي الحكومي سيقود في نهاية المطاف إلى نظام يخدم المجتمع بصورة مثالية. كذلك يجب أن يكون للأفراد حرّية المشاركة في السوق و إنتاج الثروة دون تدخّل الحكومة. في نفس الوقت، من الموهم أن نثق بالأفراد بشكل كامل على التصرف بمسؤولية في مجالات أخرى من الحياة، و لذلك فإن المحافظين الليبراليون يعتقدون أن وجود دولة قوية أمر ضروري لضمان القانون و النظام. إضافةً إلى ذلك ضرورية و دور المؤسسات الاجتماعية لتعزيز الشعور بالواجب و المسؤولية تجاه المجتمع. من الأسم نفسه نستنبط أن السياسة المحافظة الليبرالية هي موقف سياسي يدعم الحريات المدنية إلى جانب بعض التقاليد الاجتماعية المحافظة. تستطيع أن تفهم هذا المذهب كـ أيديولوجية يمين الوسط. في أوروبا الغربية هو الشكل المهيمن للسياسة المحافظة المعاصرة.

بما أن لكل من "المحافظة" و "الليبرالية" معان مختلفة تباينت على مر الزمن و عبر البلدان، فقد استخدم مصطلح "المحافظة الليبرالية" بشكل متباين أيضاً. فالواقع السياسي و الخليط الديني، العرقي، الموقع الجغرافي و التاريخ السياسي للبلد،كلها عوامل تحدد الاتجاه السياسي و مراكز ثقله. لذلك حاول أن تبتعد عن التفكير الأبيض و الأسود في وصف هذه المذاهب و اطلق العنان لمخيّلتك كي تتصوّر نظام إحداثيات تمثّل محاوره التوجّهات الأساسية [محافظ ـ تقدّمي ـ سلطوي ـ ديمقراطي/تحرري]. لاحظ أنني أتجنّب مصطلحي اليمين و اليسار، لأنهما يتباينان جداً من مجتمع و ثقافة إلى أخرى. لكن بصورة عامة تفضّل الإحداثيات السياسية لليسار اللون الأخضر و تتداخل مع اللون البنفسجي. اليمين على العكس تجد إحداثياته تتكرّر في النطاق الأزرق و البنفسجي.

أظنك ستفهم مدى صعوبة تحديد ماهو اليسار و ما هو اليمين عندما نتكلّم بصورة عامة. لذلك يلجأ الكثير إلى تعريفات إضافية كـ "ما بعد الحداثة" أو "اليسار التقدّمي المعاصر" ليصف مثلاً الطيف السياسي السائد في ديمقراطيات الغرب و الذي يتبنّى سياسات التحرّر، الديمقراطية، السلامية [مناهضة الحرب و العنف]، الحكومة الكبيرة، الانفتاح على الهجرة، العولمة، التخلّص من تقاليد الماضي و الهويات القومية، النسوية، سياسات الصواب السياسي، المساواة، التركيز على حقوق الأقلّيات و حماية البيئة. اليمين المحافظ لا يعني أنه لا يهتم بحقوق الأقليات أو يؤيد العنف أو حتى يرفض الانفتاح على العالم، بالعكس، لكن برامجهم السياسية تركّز على الجانب المعاكس من المعادلة أكثر و تفضّل المصالح القومية و أهل البلد على حساب العولمة مثلاً، أو يجدون في بعض الحروب و التدخّلات العسكرية ضرورة سياسية أو إنسانية و أهمية اجتماعية في التمحور حول تقاليد و ثقافة البلد. التأدلج و التطرّف يمكن أن يظهران في كل مربّع و لون مختلف.

كمثال آخر على التباين الفلسفي في السياسة: تتناقض السياسة المحافظة الليبرالية مع المحافظة الأرستقراطية. فالأخيرة ترفض مبدأ المساواة كشيء يتناقض مع الطبيعة البشرية، و تحث بدلاً من ذلك على فكرة عدم المساواة الطبيعية و التي تؤكّد على التباين الجيني في الذكاء، القدرات و الطموح بين البشر. و مع احتفاظ المحافظين في البلدان الديمقراطية بالمؤسسات الليبرالية النموذجية مثل سيادة القانون، حق التملّك الخاص، اقتصاد السوق الحر و الحكومة التمثيلية الدستورية، أصبح العنصر الليبرالي في السياسة المحافظة الليبرالية توافقياً بين المحافظين.

مع ذلك يفرض الواقع السياسي نفسه دائماً: ففي بعض البلدان، مثل المملكة المتحدة و الولايات المتحدة الأمريكية، يُفهَم مصطلح "المحافظة الليبرالية" ببساطة على أنه "محافظ" في الثقافة الشعبية، مما دفع بعض المحافظين الذين اعتنقوا القيم الليبرالية الكلاسيكية القديمة ليطلقوا على أنفسهم إسم "الليبرتاريون". بشكل مقتضب: يؤمن الليبرتاريون بأن الفرد في المجتمع يملك نفسه تماماً و بالتالي فإن لديه الحرّية في التصرّف فيها و في ممتلكاته و في عقائده كما يشاء، شرط ألا يتعدى على حريات الآخرين و ممتلكاتهم. و عليه فهم يؤيّدون التحرّر و إزالة القيود المفروضة على الفرد من قبل الدولة و المجتمع،كالعادات و التقاليد، و تقليص حجمها قدر المستطاع.

مع ذلك، فإن التقليد الليبرالي ـ المحافظ في الولايات المتحدة غالباً ما يجمع بين الفردية الاقتصادية للليبراليين الكلاسيكيين مع توجّه محافظ "بيركي" يشدّد على عدم المساواة الطبيعية بين البشر و عدم عقلانية السلوك البشري كمعلّل للدافع البشري نحو النظام و الاستقرار و رفض الحقوق الطبيعية كأساس للحكومة [ما أقصده بـ "بيركي" هو التأثّر بفلسفة إدموند بيرك، فيلسوف سياسي إيرلندي يعتبره الكثير من روّاد المذهب المحافظ الحديث و أهم نقّاد الثورة الفرنسية ١٧٨٩]. و مع ذلك، تجد التيار المحافظ الأمريكي هجيناً من مبادئ محافظة و ليبرالية كلاسيكية احتفظ ببعض المبادئ الأصلية و تجاهل أخرى. و بالتالي، لا يستخدم في الولايات المتحدة مصطلح "المحافظة الليبرالية"، في نفس الوقت تختلف توجّهات و نقاط ثقل الليبرالية الأمريكية الحديثة عن نظيرتها الأوروبية. و العكس تجده مثلاً في أمريكا اللاتينية، حيث يوصف المحافظ الليبرالي اقتصادياً تحت عنوان النيوليبرالية، سواء في الثقافة الشعبية أو الخطاب الأكاديمي. تتذّكر ما قلته عن التشابك في المصطلحات؟ الأمر يزداد تعقيداً عندما نعود لأوربا مجدداً.

في اعتناقهم لمبادئ الليبرالية و السوق الحرّة، مازال بإمكانك التمييز بين هؤلاء المحافظين الأوروبيين عن المحافظين الذين اعتنقوا آراءً و مواقف أكثر تحفّظاً اجتماعياً و فلسفياً. البعض يلصق بهم مصطلح "الشعبوية" و هم طبعاً في خندق اليمين. كمثال للوتضيح، في أوروبا الوسطى و الشمالية الغربية، خاصةً في الدول الجرمانية و البروتستانتية التقليدية، لا تزال هنالك فجوة بين المحافظين، حتى داخل التحالفات نفسها، كتحالف الديمقراطيين المسيحيين الحاكم في المانيا و الذي تقوده ميركل [CDU/CSU]. على سبيل المثال، فكرة الزواج كمؤسسة اجتماعية تحتاج دعم الدولة و تقتصر على الرجل و المرأة و تشكّل موقفاً رئيسياً عند المحافظين المسيحيين الديمقراطيين، بينما يحتضن نفس التحالف الحزبي محافظين ليبراليين ساهموا في كسر قدسية الزواج و فتحه على المثليين مثلاً، لانهم يؤمنون بالتحرر أكثر من الالتزام بالتقاليد.

على العكس من ذلك، في البلدان التي دخلت فيها الحركات الليبرالية المحافظة التيار السياسي الرئيسي مؤخراً، مثل إيطاليا و إسبانيا، يمكن فهم المصطلحين "الليبرالي" و "المحافظ" على أنهما مرادفان سياسيان، و كثيراً ما ينطوي ذلك على التشديد على اقتصاد السوق الحر و الاعتقاد بالمسؤولية الفردية جنباً إلى جنب مع الدفاع عن الحقوق المدنية، دعم الأقلّيات و دعم نظام الرعاية الاجتماعية المحدود. لذلك من المهم جداً أن تفهم الجغرافية السياسية لكل دولة و تتناولها بمعزل عن التعريفات العامة.

مقارنةً بالسياسة التقليدية التي يمثّلها يمين الوسط مثلاً [كـ الديمقراطيين المسيحيين في المانيا ، حزب المحافظين البريطاني، الحزب المحافظ في كندا، حزب العدالة و القانون البولندي، حزب الشعب الهندي، الحزب الاشتراكي المسيحي الديمقراطي في البرازيل ] فإن المحافظين الليبراليون [كـ حزب المحافظين النرويجي، الائتلاف الوطني الفنلندي، الحزب الليبرالي الديمقراطي في المانيا، المعتدلون الجدد في النرويج] يميلون لسياسات أقل تقليدية و أكثر تحرراً من الناحية الاقتصادية، يحبّذون ضرائب منخفضة وأدنى تدخل للدولة في الاقتصاد. في الخطاب الأوروبي الحديث تجدهم يرفضون، على الأقل إلى حد ما، المحافظة الاجتماعية و التشبّث بالتقاليد.

أظنك قد لاحظت أنني لم أتطرّق إلى الدول العربية. ببساطة لأن الأوضاع السياسية غير مستقرة و تاريخ السياسة العربية مليئ بالمطبّات و الثورات. إضافةً إلى ذلك، الديمقراطيات العربية غارقة إما بالفساد، بالتطرّف الديني أو الحرب الأهلية. حتى الدول المستقرة نسبياً تحكمها أنظمة لا تتحلّى بحرية سياسية كافية لتسمح للفرد بأن يتعمّق في هكذا سياسات، أو يعبّر عنها. مع ذلك، تميل الأنظمة السلطوية في المنطقة إلى الاستقرار و تبنّي سياسات طويلة المدى أكثر من تلك الديمقراطية، و هو ما يفتح باب الجدل السياسي عن كون تحديد المصير و تدخّل الفرد في السياسة يصب في النهاية فعلاً في الصالح العام. لذلك تجد الناقد العربي السياسي المهتم يضطر لاستيراد الفلسفات السياسية الغربية و تحويرها محلياً، بدل التنظير لسياسة محلية مناسبة للتاريخ، الجغرافية و الواقع. كذلك لا ننسى الواقع العربي المرتبط بثقافة صحراوية دينية تفرض نفسها كنظام دين و دولة و اقتصاد لا تتسامح مع المختلفين، مما يعيق نشوء مدارس سياسية تنظّر لمستقبل على أساس واقع متهالك. السياسة و إن كانت مملة، فهية شيّقة أحياناً في التنظير الفلسفي و تبدأ من سلوكياتك كفرد و في إطار العائلة إلى نطاق أكبر. لذلك من المهم أن تتعمّق أكثر و تحاول إيجاد المزيج الفكري المناسب لك و لمستقبلك و أيضاً للأجيال القادمة.

Commenti


bottom of page