top of page

الفصل الأوّل من كتاب "كيف تكون رواقيّاً"

  • ماسيمو بيغليوتشي⎮ترجمة: سيف البصري
  • 11. Sept. 2017
  • 13 Min. Lesezeit

الفصل الأوّل: المسار الملتوي

في كل ثقافة نعرفها، سواء كانت علمانية أو دينية، متنوّعة عرقياً أم لا، تجد أن السؤال عن كيفية عيش و خوض حياة صالحة جوهرياً في أبعاده. كيف ينبغي لنا التعامل مع تحدّيات الحياة و تقلّباتها؟ كيف ينبغي لنا أن نهذّب سلوكياتنا في العالم و أن نتعامل مع الآخرين؟ و السؤال النهائي: كيف يمكننا أن نستعد بشكل أفضل للاختبار النهائي لشخصيتنا، اللحظة التي نموت فيها؟

العديد من الأديان و الفلسفات التي شهدها التاريخ البشري و حاولت معالجة هذه القضايا، تقدّم إجابات تتراوح بين الروحانيات و حتى تلك المفرطة عقلانياً. حتى العلم نفسه دخل في الآونة الأخيرة في مجال تسويق الأوراق التقنية و الكتب الشعبوية التي تتناول فكرة السعادة و كيفية تحقيقها، ترافقها حزمة من المسوحات الدماغية و الدراسات التي تقترح ما يمكن أن يزيد أو يقلّل من السعادة نفسها. في المقابل، أدوات البحث عن إجابات للأسئلة الوجودية التي تشغل الإنسان منذ بداية التاريخ تتباين بقدر المناهج التي استخدمت من قبل - من النصوص المقدسة إلى التأمّل العميق، الحجج الفلسفية و التجارب العلمية.

إن الصورة البانورامية الناتجة مذهلة حقاً و تعكس كلا من إبداع الروح الإنسانية و الإلحاح الذي يصاحب الاستفسارات حول المعنى و الغرض من الوجود. يمكنك كإنسان تبنّي مجموعة كبيرة و متنوّعة من الخيارات العقائدية و الفلسفية داخل الديانات الإبراهيمية، على سبيل المثال؛ أو اختيار مدرسة من المدارس البوذية؛ أو الطاوية، أو الكونفوشيوسية، و غيرها الكثير. أما إذا كنت ممن يفضّل الفلسفة، بدلاً عن الدين، فيمكنك أن تتناول الوجودية، الإنسانوية العلمانية، البوذية العلمانية، الثقافة الأخلاقية، و إلخ. أو يمكن أن تصل بدلاً من ذلك إلى الاستنتاج بأنه لا يوجد معنى أصلاً - أي أن البحث عن ذلك المعنى نفسه لا مغزى له - و ربما تعتنق نوعاً "سعيداً" من العدمية (نعم، هناك شيء من هذا القبيل).

بالنسبة لشخصي، فأنا أصبحت رواقياً. و أنا لا أقصد أنني قد بدأت بالتعامل مع قسوة الواقع و الإحباط بأسلوب حليم يقمع مشاعري تماماً. بقدر ما أحب شخصية السيد سپوك Mr. Spock [شخصية خيالية في الفيلم والمسلسل التليفزيوني المتميز إعلامياً ستار تريك] التي ألّفها جين رودنبيري [كاتب المسلسل]، إلا أنها تعكس فهماً ساذجاً للمؤلّف عن الرواقية ـ في مايتضح لاحقاً. حيث أن هذه الصفات [شخصية سپوك في المسلسل باردة و لاتظهر العواطف] تمثّل إثنين من المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعاً حول معنى أن تكون رواقياً. في الواقع، لا تقتصر الرواقية على قمع المشاعر أو إخفائها، بل العكس تماماً، فهي تتعلّق بالاعتراف بمشاعرنا و التأمّل في أسبابها، ثم إعادة توجيهها إلى صالحنا. الرواقية تحث على أن نأخذ في الاعتبار ما هو خاضع تحت سيطرتنا و ما يستعصي عليها، مع تركيز جهودنا على الأول و عدم التفريط بها و إضاعتها على الأخير. هي ببساطة تعني ممارسة »الفضيلة« و التميّز و الارتقاء في العالم إلى أفضل قدراتنا، مع الأخذ في الاعتبار البعد الأخلاقي لجميع أعمالنا.

كما سأشرح في هذا الكتاب، فالممارسة العملية للرواقية تقتضي مزيجاً ديناميكياً من التفكير في المفاهيم النظرية، قراءة النصوص الملهمة، و الانخراط في التأمّل، التعقّل، و غيرها من التدريبات الروحية [الكاتب يتناول مصطلح الروحيات بشكل عام يتضمّن حتى المفاهيم العقلانية، الوعي و الشعور النفسي بالـ الأنا]. واحد من المبادئ الرئيسية للفلسفة الرواقية هي أننا يجب أن ندرك و نأخذ على محمل الجد، التفريق بين ما يمكننا و ما لا يمكننا السيطرة عليه. هذا التمييز - الذي أدلت به أيضاً بعض المذاهب البوذية - غالباً ما يُفهَم كـ انسحاب من المشاركة الاجتماعية و الحياة العامة، لكن نظرة فاحصة على كل من الكتابات الرواقية و حياة مشاهير رواقيين تبدّد هذا الانطباع و تثبت العكس: الرواقية كانت منذ العصور الماضية فلسفة عملية تحث على المشاركة الاجتماعية و تشجّع على النية الحسنة تجاه البشرية جمعاء و الطبيعة أيضاً. هذا التوتّر المتناقض فيما يبدو بين نصيحة التركيز على أفكارنا الخاصة و البعد الاجتماعي الذي يتنضمن المسؤولية تجاه المجتمع، هو ما شدّ انتباهي و دفعني إليها كفلسفة عملية.

وصلت إلى الرواقية، لا في طريقي إلى دمشق، و لكن من خلال مزيج من صدف و وقائع ثقافية، تقلّبات في حياتي، و خيار فلسفي مقصود. الآن و بعد كل ذلك، يبدو أنه لا مفر من أن يؤدي طريقي في نهاية المطاف إلى الرواقية. كشخص ترعرع في روما، اعتبرت الرواقية جزءاً من تراثي الثقافي منذ أن درست التاريخ الروماني و الإغريقي القديم و الفلسفة في المدرسة الثانوية، على الرغم من أنه لم يكن حتى وقت قريب منذ أن سعيت لجعل مبادئها جزءاً من حياتي اليومية. أنا كتعريف مهني فيلسوف و عالِم، و لذلك كنت دائماً أميل إلى البحث عن طرق أكثر تماسكاً و تناسقاً لفهم العالم (من خلال العِلم) و البحث عن خيارات أفضل لعيش حياة صالحة و سعيدة (من خلال الفلسفة). قبل بضع سنوات، كتبت كتاباً: "أجوبة عن أرسطو: كيف يمكن للعلم و الفلسفة أن يقودانا إلى حياة أكثر معناً و وضوحاً"، و الذي تناولت فيه منهجاً سميّته sciphi السايـ فاي [science+philosophy]. كان النهج الأساسي هو الجمع بين الفكرة القديمة من الأخلاق الفضيلة، و التي تركّز على تنمية الشخصية و السعي للارتقاء الشخصي، كالركائز التي تضفي معناً على حياتنا، مع آخر ثمار العلوم الطبيعية و الاجتماعية التي تخبرنا عن الطبيعة البشرية و كيف نعمل، نفشل و نتعلّم. هذا كان سوى بدايةً لرحلتي نحو الوعي الفلسفي الذاتي. لكن شيء آخر كان يشغل تفكيري آنذاك. أنا لم أكن شخصاً متديّناً منذ سنوات المراهقة (دفعتني قراءة كتاب برتراند راسل الشهير "لماذا أنا لست مسيحياً" في أيام المدرسة الثانوية إلى مغادرة الكاثوليكية بشكل تدريجي)، و على هذا النحو استمرّت التساؤلات حول الأسئلة الأخلاقية و مصادر الاستنباط الفلسفية. أظن أن عدداً متزايداً من الناس، سواء في الولايات المتحدة و في جميع أنحاء العالم، يواجه معضلة مماثلة.

في الوقت الذي أتعاطف فيه مع فكرة أن يكون عدم الانتماء الديني خياراً مقبولاً في الحياة مثل أي خيار انتماء ديني مدعوم بحزم بالفصل الدستوري بين الدولة و الدين، ينمو عندي عدم رضا على نحو متزايد مع الغضب المتعصّب لما يسمّى بالملحدين الجدد، ممثلين بريتشارد داوكينز و سام هاريس و آخرين. و على الرغم من أن الانتقاد العلني للدين (أو أي فكرة) هو العنصر الأساسي لمجتمع ديمقراطي سليم، فإن الناس لا يستجيبون بشكل جيّد للتجريح أو التصغير من شأنهم. في ما يخص هذه النقطة، يوافقني الفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس الرأي بوضوح:

"عند هذه النقطة، أنت تخاطر بأن تدفعه للقول:"ما دخلك أنت؟ من أنت بالنسبة لي؟" ضايقه أكثر، وستكون عرضة لـ لكمة في الأنف. أنا شخصياً كنت حريصاً على هذا النوع من الخطاب، حتى جوبهت بمثل هذا الاستقبال".

هناك بالطبع، بدائل الإلحاد الجديد إذا كنت ترغب في اتباع نهج غير ديني في الحياة، بما في ذلك البوذية العلمانية و العلمانية الإنسانوية. مع ذلك، فإن هذين المسارين - و هما الطريقان الرئيسيان اللذان يخاطبان أولئك الذين يسعون إلى تشييد وجود علماني - أجدهما نوعاً ما غير مرضيين بالنسبة لي. أما بالنسبة للبوذية، فأجد أساليب مذاهبها السائدة حالياً غيبية و روحانية بشكل مفرط، و نصوصها غامضة و يصعب تفسيرها، خاصة في ضوء ما نعرفه عن العالم و الحالة الإنسانية من العِلم الحديث (على الرغم من عدد من الدراسات في علم الأعصاب التي تظهر بشكل مقنع فوائد التأمّل).

إن الإنسانوية العلمانية التي اعتنقتها لسنوات، تعاني من مشكلة عكسية: فهي، أيضاً، تعتمد بشكل مفرط على العِلم و التصوّرات الحديثة للعقلانية، و نتيجة لذلك - و على الرغم من أفضل الجهود التي يبذلها مؤيدوها - فهي تهب بشكل بارد و خالية من المفاهيم التي قد تريد تعليمها لأطفالك في صباح يوم الأحد [أو صلاة الجمعة]. و هو ما أعوز إليه النقص المذهل في نجاح (عددياً) المنظمات الإنسانية العلمانية. على النقيض من ذلك، وجدت أن في الرواقية فلسفة عقلانية، تماسي و لا تناقض العلم و تشمل في نفس الوقت بعداً روحانياً، و تفتح باباً صريحاً للمراجعة. و الأهم من ذلك كلّه، أنها فلسفة عملية بشكل بارز. أقرّ الرواقيون بالمبدأ العلمي للسببية: كل شيء له سبب، و كل شيء في الكون يتكشّف وفقاً لعمليات طبيعية. ليس هناك مجالاً للخرافات. في نفس الوقت كانوا يعتقدون أيضاً، أن الكون منظّم وفقاً لما أسموه Logos لوگوس [مصطلح فلسفي و ديني قديم من الثقافة الأوربية يدل في سياقات شتّى على مدلولات متعددة، كالخطاب، اللغة، العقل الكلّي، كلمة الإله أو القانون الكلّي للكون، كما يصفه هرقليطس]، والتي يمكن أن تفسّر على أنها إما الله أو ببساطة ما يسمى أحياناً بـ »إله آينشتاين«: الحقيقة البسيطة المطلقة أن الطبيعة قابلة للفهم و الاستيعاب بواسطة العقل.

على الرغم من أن المكوّنات الأخرى للفلسفة الرواقية محورية، إلا أن السمة المميّزة و الأهم هي طبيعتها العملية: فهي منذ بدايتها تنظّر لفلسفة عملية غير معقّدة تساعد الفرد في سعيه للحصول على حياة سعيدة و ذات مغزى. إذن ليس من المستغرب أن نقرأ في نصوصها الأساسية - معظم الكتابات وصلتنا إلى حد كبير من فترة الرواقية الرومانية المتأخّرة (كما كانت تسمّى سابقاً)، لأن معظم الكتابات في وقت مبكر مازالت مفقودة - تعاليم واضحة و بسيطة. إبيكتيتوس، سينيكا، موسونيوس روفوس، و ماركوس أوريليوس كلّهم يتحدثون معنا بلغة واضحة، بعيداً عن النصوص البوذية المشفّرة برموز غيبية أو حتى اللغة المزخرفة بالاستعارات و القصص الرمزية من الثقافة المسيحية المبكّرة. واحد من الاقتباسات المفضّلة عندي، هي من إبيكتيتوس، و التي تجسّد هذا الواقع العملي للرواقية:

"الموت ضروري و لا يمكن تجنّبه. أعني، لو أردت، إلى أين سأذهب بعيداً عنه؟"

السبب النهائي الذي دفعني إلى الرواقية هو أن هذه الفلسفة تتحدّث بشكل مباشر و مقنع حول حتمية الموت و مواجهته. لقد أكملت مؤخّراً نصف قرن من العمر، و هي نقطة تبدو تعسّفية في الحياة التي دفعتني مع ذلك إلى الانخراط في أفكار و تأمّلات أوسع حول من أنا، و ماذا أفعل؟ كشخص غير متدين، كنت أيضاً أبحث عن أشبه بكراس تعليمات حول كيفية الاستعداد لمواجهة نهاية المطاف من حياتي. و بعيداً عن مشاغلي الوجودية، نحن نعيش اليوم في مجتمعات تتوسّع فيها الحياة من خلال العلم الحديث، و بالتالي سيجد الكثير منا أنفسنا بحاجة إلى اتخاذ قرار بشأن استمرار وجودنا لعقود بعد التقاعد و دخول آخر مراحل الحياة. و علاوة على ذلك، مهما كان قرارنا بشأن معنى حياتنا و هدفنا فيها، لا بد من إيجاد سبل لتهيئة أنفسنا و أحبائنا لمواجهة الزوال الدائم لوعينا، و وجودنا الفريد في هذا العالم. فنحن بحاجة إلى معرفة كيفية الموت بطريقة كريمة تسمح لعقولنا بالولوج إلى الهدوء و الصفاء و كيف نواسي أولئك المقرّبون و العزيزون علينا بعد أن نرحل.

من الجدير بالذكر أن الرواقيين الأوّليون كرّسوا قدراً كبيراً من الجهد و الكثير من الكتابات لما وصفه سينيكا بأنه الاختبار النهائي للشخصية و المبدأ. "نموت كل يوم"، كتب إلى صديقه جايوس لوسيليوس. و قد ربط سينيكا هذا الاختبار ببقية وجودنا على الأرض: "لا يمكن للرجل أن يعيش صالحاً، إذا لم يعرف كيف يموت بشكل صالح". الحياة، بالنسبة للرواقيين، هي مشروع مستمر، و الموت، كما فهموه، هو نقطة نهاية طبيعية منطقية، لا شيء مميز في حد ذاته و لا هو شيء يجب أن نخشاه بشكل مبالغ. هذا الموقف الفكري انتشر صداه في ذهني و خاطب التناسق في جوارحي، بعيداً عن تصوّرات الخيال حول الخلود التي لا يوجد دليل عليها و لا سبب عقلاني للاعتقاد بها، و بعيداً عن التهرّب من الواقع الحتمي نفسه.

لهذه الأسباب و أسباب أخرى، أنا لست وحيداً في بحثي لإحياء هذه الفلسفة العملية القديمة و تكييفها مع الحياة في القرن الحادي والعشرين.

في حدث سنوي، يحضر الآلاف من الناس إلى المشاركة في أسبوع الرواقية الذي ينظّمه فريق في جامعة إكستر في إنجلترا، بالتعاون مع الفلاسفة الأكاديميين و المعالجين المتخصصين بالعلوم، و مشاركين مهتمين من جميع أنحاء العالم. الهدف من هذا الأسبوع الرواقي له جانبين: من ناحية، هي فرصة لتعريف الناس بتاريخ هذه الفلسفة القديمة و أهميتها لحياتهم المعاصرة، و من ناحية أخرى، لجمع البيانات المنهجية لمعرفة ما إذا كانت ممارسة الرواقية تحدث فرقاً واضحاً على أرض الواقع. النتائج الأوّلية من مبادرة إكستر هي مؤقّتة حتى الآن (في أسابيع الرواقية في المستقبل، سيتم استخدام بروتوكولات تجريبية أكثر تطوراً و جمع أحجام عيّنات أكبر)، لكنها واعدة. فعلى سبيل المثال، أفاد المشاركون في الأسبوع السنوي الثالث من المبادرة بأن المشاعر الإيجابية ارتفعت بحوالي ٩٪، مع انخفاض المشاعر السلبية بنسبة ١١٪، و حسن رضا نفسي بنسبة ١٤٪ بعد أسبوع كامل من الحدث الأسبوعي. (في العام السابق أجرى الفريق متابعة طويلة الأمد للتأكّد من البيانات، و أكّدوا النتائج الأولية للأشخاص المشاركين). و يبدو أيضاً أن المشاركين يعتقدون أن الرواقية تجعلهم أكثر فطنة و أقرب إلى الفضيلة في التعامل اليومي، على الأقل هذا ما أدلى به ٥٦٪ من المشاركين في الاستبيانات.

لابد من التنويه أن هذه هي عيّنة مختارة من الناس الذين لديهم مصلحة و رغبة سابقة في التعمّق في هذه الفلسفة، و بالتالي فهم من البداية حاضرون بجرعة فضول و رغبة في التأمّل. نتائج مثل هذه ليست مثيرة للدهشة تماماً، بالنظر إلى أن الرواقية هي الجذر الفلسفي لعدد كبير من العلاجات النفسية المعتمدة على الأدلّة. بطبيعة الحال، الرواقية هي فلسفة بالدرجة الأولى، و ليست نوعاً من العلاج النفسي. الفرق هنا بالغ الأهمية: فالعلاج وفق تعريفه و هدفه، هو نهج قصير الأجل هدفه مساعدة الناس على التغلّب على مشاكل محددة ذات طبيعة نفسية. هو لا يوفّر بالضرورة صورة عامة، أو فلسفة كاملة عن الحياة. فلسفة الحياة هي شيء نحتاجه و نطوّره جميعاً، بوعي أو بدون. بعض الناس ببساطة يكتسبون تعاليمهم و فلسفتهم التي تحدد إطار الحياة من الدين في المجتمع الذي يولدون فيه. البعض الآخر يشكّل فلسفته الخاصة أثناء السير في دروب الحياة، دون أن يفكّر كثيراً في ذلك، و لكن مع ذلك ينخرط في أعمال و قرارات تعكس بعض الفهم الضمني للحياة. أما البعض الآخر يفضّل - كما وصفه سقراط - أن يأخذ الوقت الكافي لدراسة و تأمّل حياته من أجل العيش بشكل أفضل. الرواقية، حالها حال أي فلسفة حياة أخرى، قد لا تخاطب جوارح أو تشدّ انتباه عقل كل إنسان. بل هي متطلّبة بطبيعتها، مشدّدة على أن الشخصية الأخلاقية الفاضلة هي الشيء الوحيد الذي يستحق أن ننمّيه. الصحة، التعليم، و حتى الثروة تعتبر مزايا جانبية (على الرغم من أن الرواقيون لا يدعون إلى الزهد، و كثير منهم تمتع تاريخياً بالأشياء الجيّدة في حياتهم). هذه "المزايا" لا تعرّف هويتنا كأفراد و ليس لها علاقة بقيمتنا الشخصية التي تعتمد على سلوكياتنا و ممارستنا للفضائل. و بهذا المعنى، فإن الرواقية هي ديمقراطية بارزة، تتقاطع عبر الطبقات الاجتماعية: سواء كنت غنياً أو فقيراً، صحيّاً أو مريضاً، متعلّماً أو جاهلاً، فإنه لا فرق في قدرتك على عيش حياة أخلاقية فاضلة، و بالتالي تحقيق ما سمّاه الرواقيون أتاراكسيا، أو صفاء الذهن.

رغم تميّزها، تشترك الرواقية بالكثير من المبادئ الأخلاقية مع الفلسفات الأخرى و مع الأدیان (البوذیة و الطاویة و الیھودیة و المسيحیة)، و الحرکات الحدیثة مثل الإنسانیة العلمانیة و الثقافة الأخلاقیة. هناك شيء جذّاب جداً بالنسبة لي، كشخص غير متديّن، في مثل هذه الفلسفة المتنوّعة التي يمكن أن تشترك في الأهداف أو على الأقل في بعض المواقف العامة مع التقاليد الأخلاقية الرئيسية الأخرى في جميع أنحاء العالم. هذه القواسم المشتركة دفعتني لأن أرفض الإلحاد الجديد الذي انتقدته في وقت سابق، كما أنها تسمح للأشخاص الدينيين بأن ينأوا بأنفسهم عن الأصوليات المتطرّفة التي عانا منها تاريخنا الحديث.

في نهاية المطاف، لا يهم للشخص الرواقي إذا كنّا نعتقد أن اللوگوس Logos [إله آينشتاين، مصطلح فلسفي و ديني قديم من الثقافة الأوربية يدل في سياقات شتّى على مدلولات متعددة، كالخطاب، اللغة، العقل الكلّي، كلمة الإله أو القانون الكلّي للكون، كما يصفه هرقليطس] هو الله أو الطبيعة، ما دمنا ندرك أن حياة إنسانية كريمة هي حصاد تهذيب شخصيتنا و سلوكياتنا بشكل فاضل و اهتمامنا بالآخرين (و حتى الطبيعة نفسها) و في ظل التحرّر ـ بشكّل معقول و ليس متطرّفاً ـ من استهلاك السلع الدنيوية. هناك بطبيعة الحال تحدّيات لا تزال دون حل، و التي سوف أتناولها مع القارئ في الفصول القادمة. الرواقية الأصلية، على سبيل المثال، كانت فلسفة شاملة شملت ليس فقط الأخلاق، بل أيضاً الميتافيزيقيا، العلوم الطبيعية و نهج محددة للمنطق و المعرفة (أي نظرية المعرفة). هم اعتبروا أن هذه الجوانب الأخرى من فلسفتهم مهمة، لأنها احتوت قلقهم الرئيسي: كيف يعيش المرء حياته؟

الفكرة هي أنه من أجل اتخاذ قرار بشأن النهج الأمثل للعيش، نحن بحاجة أيضاً إلى فهم طبيعة العالم حولنا (الميتافيزيقيا)، و كيف يعمل (العلوم الطبيعية)، و كيف (بشكل غير كامل) نأتي لفهم ذلك (نظرية المعرفة). لكن العديد من المفاهيم الخاصة التي وضعتها الوراقية القديمة فسحت المجال لمفاهيم حديثة أدق أدخلتها العلوم الحديثة و الفلسفة، و بالتالي تحتاج إلى تحديث. على سبيل المثال، كما يوضّح الكاتب الرواقي الحديث ويليام إير ڤاين في "دليل لحياة صالحة"، فإن الفاصل الواضح الذي بيّنه الرواقيين بين ما هو غير خاضع لسيطرتنا و ما هو خارج عنها، صارم جداً: فخارج إطار أفكارنا و مواقفنا، هناك بعض الأشياء التي يمكننا و من المفروض ـ تبعاً للظروف ـ أن نؤثّر عليها، حتى النقطة التي ندرك فيها أن لا شيء أكثر في وسعنا القيام به. صحيح أيضاً أن الرواقيينكانوا متفائلين بشكل مفرط حول مدى سيطرة البشر على أفكارهم و مزاجهم. فقد أظهرت العلوم المعرفية الحديثة مراراً و تكراراً أننا غالباً ما نكون فريسة للتحيّز المعرفي و المغالطات.

و لكن من وجهة نظري، هذه المعرفة تعزّز فكرة أننا بحاجة إلى تدريب أنفسنا في التفكير الفاضل و الصحيح، كما نصح الرواقيون. و أخيراً، واحدة من السمات الأكثر جاذبية في الفلسفة الرواقية هي أن الرواقيين كانوا منفتحين أمام فكرة إعادة النظر في النقد و التحدّيات التي تواجه مذاهبهم و تغييرها وفقاً لذلك. بعبارة أخرى، هي فلسفة مفتوحة، و مستعدّة لإدراج النقد من المدارس الأخرى (على سبيل المثال، ما يسمّى بالمتشككين من العصور القديمة)، فضلاً عن الاكتشافات الجديدة التي يجلبها العِلم الحديث. كما قال سينيكا: "الرجال الذين قاموا بهذه الاكتشافات من قبلنا هم ليسوا أسيادنا، و لكن مرشدينا. فالحقيقة مفتوحة للجميع؛ هي لم تُحتكر بعد. و هناك الكثير منها متروك للأجيال القادمة لاكتشافه."

في عالم تسوده الأصولية المتطرّفة و المذاهب الصلبة، من المنعش احتضان نظرة فلسفية عن الحياة هي في جوهرها مفتوحة للمراجعة و النقد. في ظل هذه الأسباب، قرّرت الالتزام بالرواقية كفلسفة للحياة، و استكشافها و دراستها و إيجاد مجالات للتحسين إن أمكن، و ثم أشاطرها مع الآخرين. في النهاية، الرواقية هي مسار آخر (ملتوي) رسمته الإنسانية لتطوير نظرة أكثر تماسكاً عن العالم، عن من نحن، و كيف نتناسب مع مخطط أوسع من الأطياف و الأنظمة حولنا. الحاجة إلى هذا النوع من البصيرة تبدو مطلباً عالمياً، و في هذا الكتاب سوف أبذل قصارى جهدي لتوجيه القارئ في هذا الطريق القديم و الحديث في نفس الوقت.

في البداية، خياري لمرشد يشاطرنا الرحلة سيكون إبيكتيتوس، أول فيلسوف رواقي واجهت كتاباته عندما بدأت برحلتي الخاصة في استكشاف تلك الفلسفة. ولد إبيكتيتوس في هيرابوليس (مدينة باموكالي الحالية في تركيا) حوالي عام ٥٥ م. إبيكتيتوس لم يكن اسمه الحقيقي، الذي لا نعرفه. الكلمة ببساطة تعني "مكتسب"، مما يعكس حقيقة أنه كان عبداً. سيّده كان معروفاً تحت إسم إبافروديتوس، وهو عبد معتق غني عمل سكرتيراً للإمبراطور نيرو في روما، حيث قضى إبيكتيتوس شبابه. و قد أصيب بالشلل، إما بالولادة أو بسبب إصابة أصيب بها عندما كان عبداً تحت سيّد سابق. على أي حال، تعامل إبافروديتوس مع إبيكتيتوس بشكل طيّب و سمح له بدراسة الفلسفة الرواقية عند واحد من المعلمين الأكثر شهرة في روما، موسونيوس روفوس. بعد وفاة نيرو في ٦٨ م، تم تحرير إبيكتيتوس من قبل سيّده - و هي ممارسة شائعة في روما مع العبيد الأذكياء و خاصة المتعلّمين منهم. ثم أنشأ مدرسة خاصة به في عاصمة الإمبراطورية، و درس هناك حتى ٩٣ م، عندما حظر الإمبراطور دوميتيان جميع الفلاسفة من المدينة. (الفلاسفة بشكل عام، و الموسيقيين على وجه الخصوص، اُضطِهدوا من قبل عدد من الأباطرة، خاصة فيسباسيان و دوميتيان، و عشرات من الفلاسفة إما قتلوا - بما في ذلك سينيكا ـ أو نفيوا، كما حدث مرّتين لموسونيوس. بعدها نقل إبيكتيتوس مدرسته إلى مدينة نيكوبوليس في شمال غرب اليونان، حيث قد زاره الإمبراطور هادريان (واحد من الأباطرة الصالحين الخمسة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، آخرهم ماركوس أوريليوس، الرواقي الأكثر شهرة في كل العصور). اشتهر إبيكتيتوسكمعلّم و جذب عدداً من الطلاب رفيعي المستوى، بما في ذلك آريان نيكوميديا، الذي دوّن بعض محاضرات معلّمه. هذه المحاضرات معروفة اليوم بـ خطابات يونانية، و التي سأستخدمها كقاعدة في استكشافنا للرواقية في هذا الكتاب. إبيكتيتوس لم يتزوج أبداً، على الرغم من أنه و في وقت متأخر من حياته بدأ يعيش مع امرأة ساعدته في تربية طفل لرجل صديق له، كان قد تُرِك للموت قبل أن يتبناه هو. إبيكتيتوس نفسه توفي حوالي ١٣٥ م.

شخصية مثيرة، أليس كذلك؟ عبد مشلول يكسب علماً و معرفة ليصبح رجلاً حرّاً و يؤسس مدرسته الخاصة، ينفيه إمبراطور واحد، و يبني مع آخر علاقة ودّية، يساعد بلا أنانية طفلاً صغيراً و يربّيه.

أوه، و الأهم من ذلك كله، ينطق بعضاً من أقوى الكلمات الحكيمة التي تحدّث بها الحكماء في العالم الغربي بأكمله و ما وراءه.

إن إبيكتيتوس هو المرشد المثالي لرحلتنا، ليس فقط لأنه أول رواقي قرأت له، لكن بسبب فطنته و ذكائه، و حسّه الداكن من الفكاهة. كذلك لاختلافي معه حول عدد من النقاط الهامة، و التي سوف تظهر المرونة الفائقة للفلسفة الرواقية و قدرتها على التكيّف مع الأزمان و الأماكن المختلفة، من القرن الثاني في روما و حتى القرن الحادي و العشرين في نيويورك. لذلك دعونا نستكشف الرواقية معاً في محادثة نخوضها مع إبيكتيتوس عبر خطاباته. سوف نتحدّث عن مواضيع متنوّعة مثل الله، العولمية في عالم مزدحم على نحو متزايد، رعاية أسرنا، أهمية تهذيب سلوكنا و شخصيتنا، التحكّم بالغضب و تقبّل الإعاقة، الموقف الأخلاقي من (أو عدم) الانتحار، و أكثر من ذلك بكثير. أما الكتّاب الآخرون، القدامى و الحديثون، فسوف يضيفون لما نتعلّمه من إبيكتيتوس. في نفس الوقت سأقوم أحياناً بالتراجع بلطف عن بعض مفاهيم مرشدنا، متناولاً التقدّم في الفلسفة و العلوم الحديثة على مدى القرون المتداخلة. الهدف هو تعلّم شيء عن كيفية الإجابة على هذا السؤال الأساسي: كيف يجب علينا أن نعيش حياتنا؟"

Massimo Pigliucci ماسيمو بيغليوتشي. "كيف تكون رواقياً". *** هل شدّك الفصل الأوّل من الكتاب؟ اعلمني بذلك حتى أباشر بترجمة بقية الفصول. شارك في المدوّنة حتى أعلمك بالجديد و لا تنسى بأن تشاطر محيطك الرقمي ما قرأت، فتعود الفائدة على الجميع.

bottom of page