top of page

الاختراقية - مانيفست سياسي للخروج من أزمة الديمقراطية والفوضى

  • سيف البصري
  • 6. Okt. 2019
  • 12 Min. Lesezeit

قبل أن استهل بشرح تفاصيل هذه النظرية السياسية، عليك أن تتذكّر أنه لا توجد حلول سحرية و مطلقة للواقع! لغة اليقين المطلق في السياسة هي لغة لا يجيدها الإنسان في وجه الطبيعة الأم. ولأنني أحاول تفادي الوقوع في أخطاء تاريخية ذكرها التاريخ، سأحاول صياغة هذا النهج وفق المفهوم الجذري "الراديكالي" الذي لا يفقد الهدف من عينه وإن تغيّرت ظروف اللعبة. والواقع السياسي يفرض نفسه الآن: كيف نخرج بحل بعد انهيار النظام؟

الاختراقية تتبع نهجاً جذرياً يمتاز بأنه يتقبّل هويته التقريبية في وجه حقيقة أثبتها التاريخ على مر العصور: وهي أن الأفكار السياسية لا تسفر عنها النتائج المتوقّعة دائماً. وهذا ما يعجز عن فهمه اليسار ويستمر بمحاولة إعادة تكرار التاريخ دون التعلّم من كوارث الماضي. لكن ما يميّز الفكرة الجذرية أيضاً، هو أنها أشبه بالإبحار بقارب شراعي وسط أمواج الواقع المتقلّبة، ولا بد من تغيير اتجاه القارب مع الريح بين الحين والآخر، لكن دون أن يفقد البحّار وجهته والبرّ الذي قصده منذ البداية!

إذن هي خطوة سياسية تراعي ظروف كل بلد وتخضع لكل الاحتمالات الواردة: النجاح، إلهام أفكار مقاربة أخرى، الفشل أو الضياع في إرشيف التاريخ. النتيجة لا تهمني كثيراً بقدر قناعتي بضرورة التخلّص من ورم الديمقراطية في العالم الحديث، وهذا تستحق المحاولة. ومع أنني كتبت كثيراً عن أسباب رفضي للديمقراطية وأفكار الحداثة ومابعدها، سأتطرق في الربع الأوّل إلى بعض تلك الأسباب مجدداً. الربع الثاني سيجيب على رفضي للثورة كحل للأزمات وخطرها الذي لاينتهي، ضرورة التمييز بين الثورة وبين التظاهر.

في الربع الثالث سأتناول مفهوم الاختراقية بتفصيل وأختم بالربع الأخير بتصوّرات لـ ما بعد الاختراقية.

١) تشخيص المشكلة ـ لماذا تفشل الديمقراطية

٢) لماذا ليست الثورة هي الحل؟

٣) استخدام وسائل النظام نفسه لإسقاطه ـ من مرحلة الفوضى إلى النظام

٤) ما بعد الاختراق

١) تشخيص المشكلة ـ لماذا تفشل الديمقراطية؟

إن لم تشخّص هذه المشكلة، فمن الصعب جداً الخروج من دوّامة الفساد والفوضى التي خلقتها الديمقراطية في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وليبيا ودول أخرى. عندما تتتبّع أحداث التاريخ، ستجد أن المشكلة بدأت من الثورات والانقلابات، هذا إن توصّلت لنفسة النتيجة. وعندما تسألني، لا تستغرب عندما أشخّص أساس المشكلة، لأن التشخيص وحده يدلّك على الطريق. تخلّص من هوس الديمقراطية واخرج عن فقاعة الثنائية في التفكير المحصورة بين الدكتاتورية والديمقراطية. الطيف السياسي أوسع بكثير والتاريخ البشري المدوّن فائض بالأمثلة الأخرى، كالإمبراطورية؟!

الكثير يخاف من الكلمة الأخيرة، لكنهم عندما يتغنّون بمجد الحضارات الماضية لا يترددون في ذكر الإمبراطوريات التي كتبت التاريخ، صنعت الحضارة وحكمت لمئات السنين.

هذه المقوّمات تحاول التوفيق بين طبيعة الإنسان وسلوكه الاجتماعي من جهة وبين العوامل اللازمة لتأسيس دولة ذات اقتصاد نشيط، أمن مستقر وحرية نسبية من جهة أخرى. وأي نظام يحافظ على الهرمية ويجيد التوفيق بين العلاقة التي ذكرتها آنفاً، هو نظام أفضّله وأميل إليه. إن كان ذلك يعني العودة للملكية؟ نعم، لما لا؟ أو استتباب نظام سميّه ماشئت، لا يقع في فخ المساواتية ويعطي للأكفّاء والمتخصصين دورهم في رسم مستقبل الدولة ويحافظ على علاقة متوازنة بين الفرد والمجتمع.

لذلك، الحل بسيط: وسّع أفق طيفك السياسي [على الأقل لدقائق معي هنا]، ثم راجع بعدها التاريخ وتجارب البشر في تشييد الدول و قارن بين تلك التي احتضنت الحضارة وبين ثقافتها المحلّية. هل كانت مصر ديمقراطية؟ أم حضارات الهلال الخصيب وممالك العرب القديمة؟ أنا أصلاً أكتب بلغة لأمّة وصلت أوج عظمتها الجغرافية والعلمية في أنظمة هرمية غير ديمقراطية.

دعك من هذا كله ولنعود إلى السؤال: لماذا تفشل الديمقراطية؟

في الدول المتفشية فيها الديمقراطية، يفرض عليك واقع الحال السياسي أن تتعامل بشكل مباشر مع الناخب و تراعي ثقل صوته. مع أن أساس مؤهلاته للتصويت هي بلوغه سن الثامنة عشر فقط، إلا أن أي تنظير سياسي لايستطيع تجاوزه. هذا الناخب يسع بصورة عامة مفهوماً ثنائياً لا يجيد تعريف بديل الديمقراطية سوى بالدكتاتورية وهذا هو ما تغرسه الثقافة الديمقراطية الليبرالية: فهي تروّج بشكل مستمر لنفسها مذكّرة الناخب بأن البديل حتماً هو الاستبداد والدكتاتورية. هذه مصيبة: لأنها تخنق الطيف الفلسفي السياسي في ذهن المواطن البسيط، هذا إن وجد، وتقتل كل تنظير ممكن يحاول الخروج بمستقبل البلد من المأزق الديمقراطي. لا سبيل سوى أن يطّلع الناخب على البدائل تاريخياً، في كتب فلسفة الدولة و التنظير السياسي بشكل عام. يعني من دبش..

سامحني على سوداويتي في قارءة الواقع، لكنني أخشى فعلاً من القادم، مع ذلك، شيء ما في داخلي يقول، حاول واكمل هذه السطور for the sake of trying.

أين كنا؟ آه، الشعب!

الحشود أبعد ما تكون عن العصمة. حيث أن أحد شروط الحكم الجيد هو أن يكون قرار الأفراد مستقلاً عن قرار الآخرين. فإذا سمح الجميع لأنفسهم بأن تتأثر تخميناتهم بعضها ببعض، ستتجلّى حينئذٍ أكثر من فرصة بأن تنجرف التخمينات نحو تحيّز في غير محله. وقد تجلّى هذا التأثير للنفوذ الاجتماعي في تجارب علمية حيث طلب من مجموعات من المشاركين تقدير قياسات معينة في الجغرافية أو بعض التخمينات حول معدّل بعض الجرائم، مواضيع لا يتوقّع لأحد منهم أن يمتلك معرفة كاملة حولها وكل ما عليهم فعله هو التخمين، كطول الحدود بين دولتين، على سبيل المثال، أو العدد السنوي لمعدّل جرائم القتل في دولة ما. وعرضت على المشاركين مكافآت مالية متواضعة للتأكّد من أخذ الاختبار على محمل الجد. وجد الباحثون أنه كلما زادت نسبة المعلومات التي تلقّاها المشاركين حول كل التخمينات التي قام بها الآخرون، ضاق نطاق اختياراتهم، وارتفعت احتمالية أن ينجرف محور هذا النطاق بعيداً عن القيمة الحقيقية. بعبارة أخرى، كانت المجموعات تميل نحو التوافق في الآراء، لكن على حساب الدقة. هذا الاستنتاج يتحدّى وجهة نظر مشتركة في مجال الإدارة والسياسة بأنه من الأفضل التوصّل إلى توافق في صنع القرار الجماعي، والذي يمكن أن يقود نحو مواقف وقررات تعسّفية تتخذها الغالبية.

إنها المساواتية في توزيع السلطة والأصوات يا عزيزي القارئ. وربما تضعني بعد هذه السطور في قائمة الـمناهضين لحقوق الإنسان. لو فعلت ذلك، فأحييك على ذلك، لقد أصبت! أمير الظلام يرحّب بك!

نعود إلى مشكلة الديمقراطية.

بمجرد أن نعي نظرية الجهل العقلاني [أنه من المعقول والمنطقي أن يجهل الإنسان الكثير من التعقيد والتفاصيل]، لن يبدو حينها الجهل السياسي غريباً. لكن المشكلة بالفعل بعد "بمجرّد أن".. في الواقع غالبية الناس جهلة بتفاصيل السياسة، وعليك تحمّل قساوة هذه الجملة. النظام الديمقراطي يحفّزهم على أن يكونوا جاهلين، أو بشكل أكثر دقة: يفشل في تحفيزهم لمعرفة تفاصيل سياسية، اقتصادية، علمية أكثر. وما يؤكّد هذه القاعدة هو الاستثناء بوجود بعض من هم على اطلاع جيد. ربما تكون أنت واحد منهم؟

لنفهم الفكرة سوية:

نظرية الجهل العقلاني تنص على أن معظم الناس يظلون جاهلين بالسياسة لأن التكلفة المتوقعة من تعلّم النظريات والمفاهيم السياسية تفوق الفوائد المتوقّعة لامتلاك تلك المعلومات على المستوى الفردي. الجانب الآخر من ذلك هو أن الشخص سوف يتعلّم السياسة إذا كانت الفوائد تتجاوز التكاليف. ومع ذلك، وحتى وإن استثمرت في الوقت والجهد والمال، فإن صوتك المستنير سيبقى عديم الجدوى تماماً، حاله حال أي صوت آخر لشخص غير متعلّم. وهنا لا أعني أن عموم الناس لن يتثقّفوا ويكسبوا معلومات سياسية، بل أن معظمهم لن يحصلوا عليها لغرض التصويت. ناهيك عن ذكر أن معظم الناس ينسون أغلب ما يتعلمونه في المدرسة، لذلك فرضية أن "التعليم هو الحل" ليست كافية لمعالجة هذا الخلل البديهي. ويهمني أن تفهم هذه الثغرة الكارثية قبل أن ننتقل إلى الحلول الممكنة. فدون تشخيص صحيح، يستحيل الوصول إلى مانطمح إليه من حل.

عندما تعيش في الديمقراطيات، ستجد أن معظم الناس يعتقد أن التصويت هو واجب أخلاقي وحق دستوري قبل كل شيء، وحتى ذلك المقاطع في فترة الانتخابات، لن يتنازل عن "حقه" في التصويت، فموقفه المقاطع ينبع أساساً عن امتناعه عن فعل ذلك الشيء. ولو سلبت منه أي إمكانية قانونية للتصويت، سيفقد امتناعه عن التصويت أي قيمة تذكر. إذن نحن أمام مشكلة عويصة تتعلّق بتشبّث الفرد بواجب أخلاقي في التصويت أو عدمه، لكنه في نفس الوقت لا يلزم نفسه بأي واجب أخلاقي مسؤول في كسب المعلومات السياسية والتثقّف باستمرار لمواكبة التغيّرات اليومية أو النأهّب للإنتخابات. مع ذلك، ذكرت لك قبل قليل أنه هنالك من لا يعبر يوم دون أن يقرأ خبراً سياسياً، يعلّق عليه أو يطالع حوله. ولفهم هذا الاهتمام الشعبي بالسياسة رغم السطحية المعلوماتية، لابد من فهم قوى الانتماء والطبقة الاجتماعية: فقليل من الناس يريد أن يكون الشخص الغريب وسط المجموعة. معظمهم يريد الانتماء إلى جماعة معينة وكسب احترامها. بل في بعض الأحيان يكتسب الناس المعرفة في مجال ما ليناسقوا مع المجموعة ويندمجوا فيها. وللتوافق مع مجموعة مختلفة، قد يحتاج المرء إلى معرفة الكثير عن كرة القدم أو السيارات أو المشاهير أو الموضة. وهذا ينطبق أيضاً على المعرفة السياسية! لا يوجد أي مؤشّر يجعلنا نظن العكس.

أعطيك مثالاً على هذه الديناميكية: يميل الأشخاص المثقّفون إلى العيش مع المتعلمين الآخرين والتواصل معهم والتعارف وحتى التزاوج في داخل هذه الطبقة. بينما يميلون في نفس الوقت إلى تجنّب الأشخاص غير المتعلمين. وهذه ملاحظات بديهية ربما لاحظتها بنفسك من قبل، لكنها تصيغ علاقات وتخلق دوافع ديناميكية اجتماعية لا يمكن تجاهلها. في نفس الوقت، يتوقّع المتعلّم الأكاديمي عدة اهتمامات وإلمام بمواضيع من بعضهم البعض. تخيّل نفسك تدرس الأدب في الجامعة، طبيعي أن تشعر بالخجل من الاعتراف بأنه لم يسبق لك قراءة أعمال أبو نؤاس، الجاحظ، الجواهري أو وليام شيكسبير. هنالك ضغط غير مباشر يحوك دوافع اكتساب المعلومات، وأحد تلك الدوافع هو أن المتعلمين يتوقّعون من المتعلمين الآخرين مواكبة السياسة والإلمام بتفاصيل تفوق السطحية. البعض يبدأ باكتساب المعرفة من أجل الاندماج والتأقلم مع ديناميكية الوعي الجماعي، والبعض الآخر يتعلّم التمتع بهذه المعرفة والانغماس أكثر، ومع مرور الوقت يكتسب حدساً دقيقياً في التنبّؤ بمجريات الأمور بشكل أفضل من غيره أو من الرأي العام على أقل تقدير. لذلك قد يكتسب بعض الأشخاص ذوقاً للمعرفة السياسية، وهؤلاء هم القلّة حتماً. ومع أن الكثير من الناس مهووسون بالسياسية، إلا أن الفعل المناسب لوصفهم هو الانشغال وليس الهوس، فالهوس ينطبق على تلك الفئة الأخيرة التي تجد المتعة في التوغّل بين التعقيد السياسي وتتبع مجريات التاريخ. والانشغال لا يعني أنك تسيّطر على الموضوع، بل هو من يسيّطر عليك. هذه الأمثلة تجدها في جهابذة مواقع التواصل الاجتماعي وأنبياء عصرهم ممن يصرّح ويفتي برأيه في كل قضية وكل خبر سياسي يحدث. هؤلاء منشغلون بالحدث ويتفاعلون معه، هذا كل ما في الأمر.

المشكلة مع هذه الديناميكية التي أتحدّث عنها هي أن الدوافع التي تنتج عنها لاكتساب المعرفة تهذّب تفكيرنا بشكل ضعيف لا يكفي دائماً إلى تصحيح معلوماتنا. فبعض الناس يدفعهم ضغط الاندماج من أجل التوافق مع أقرانهم. هؤلاء [أنا وأنت أيضاً] عرضة أيضاً للاعتقاد بكل ما يعتقده أقرانهم وأصدقاؤهم بشأن السياسة، وأحياناً قد نجد معلومات ونظريات سياسية خاطئة أكثر إثارة للاهتمام من أخرى أقرب إلى الحقيقة. اللاعقلانية في السياسية هي الحالة العامة وليست الاستثناء، ولذلك لا يمكن الوثوق بالجموع؛ من ناحية عقلانية ومنطقية!

إن كنت تعشق الخيال العلمي وقد شاهدت عالم الستار تريك، تخيّل كيف سيشكل شخص ڤولكان معتقداته حول السياسة؟ كشخص عاقل تماماً، سوف يعرف الجاهل أنه جاهل، وبالتالي إذا قرر معرفة المزيد، فسيبحث عن معلومات من مصادر موثوقة. وسوف تتوافق معتقداته مع أفضل ما هو متاح من مصادر، ولا ينكف عن التحقق منها دائماً!

هذا بالنسبة إلى الناخب. الآن دعني أوضّح لك المشكلة الفلسفية مع المساواتية التي تشرعن هذا الجهل وتدعمه:

غياب المساواة الاجتماعية يفسح المجال للأنظمة الميروتقراطية [الاستحقاقراطية]، أما وجودها فيقمع الكفاءات ويتعارض مع طبيعة الحياة؛ كيف؟

عندما تنطلق من واقع أن العامة لا يعرفون مصلحتهم وأنهم عرضة للديماجوجية والأصوات الرنّانة، حتى في المجتمعات المتقدّمة في مستويات التعليم، وأنهم لا يملكون الوقت المطلوب واللازم [والتشديد هنا على اللام] للتفرّغ إلى تفاصيل سياسة الدولة وتعقيداتها قبل اتخاذ القرارات أو انتخاب من يمثّل الحل الأنسب، حينها يستحيل عليك القبول بدكتاتورية الأغلبية أو ما يسميها الأغلبية بالديمقراطية، لأنك تقرّ هنا بعجز العامة عن الولوج إلى الخيارات الأفضل وبالتالي أي تسليم بحرية انتخابهم وصواب اختيارهم هو تناقض ضمني وبديهي. بعض الأفضليات والامتيازات التي يكتسبها المرء عند الولادة هي ليست أمراً غير طبيعي، ولا حتى غير عادل، بل هي واقع حال يصعب تجاهله طويلاً. قدراتنا، ذكاؤنا، طاقاتنا واهتماماتنا وحتى ظروفنا وبيئتنا التي نولد فيها تتباين من شخص إلى آخر. ففلان يحظى بتعليم وسلعة ثمينة من الوقت ورفاهية المال، وآخر يقتات لقمة اليوم ويفكّر بالغد وهو في شظف من العيش. هل الحياة عادلة؟ كل من بلغ ووعي على نفسه يعرف أنها ليست كذلك. هل نستطيع تغيير ذلك؟ جازفت الشيوعية قبلنا بمثل هذه التجارب ومات ملايين من البشر ومازالوا. لا تسيء الفهم هنا، هنالك حتماً جوانب اجتماعية يمكن فيها تحقيق توازن في الحقوق و الواجبات، ولا ضير لو كانت تخدم الصالح العام دون اضطهاد الخاص. التوازن العاقل وغير المدفوع عاطفياً في هذه الجوانب هو المطلوب.

٢) لماذا ليست الثورة هي الحل؟

"أنتم ضد التغيير بالثورات، ما الحل إذن؟"

دعني أعكّر صفوك السياسي قليلاً:

قبل كل شيء، أرجو أن لا تقع في فخ الخلط بين التظاهرات وبين الثورات. هنالك فارق شاسع ومواقع التواصل الاجتماعي لا تجيد التمييز. لذلك هذه فرصة بأن تنتبه لذلك!

ومع أنني لست مضطراً لتبرير نقدي للديمقراطية بتقديم الحلول، لكن لا يسعني سوى أن أذكّر المتسائل العزيز بأن حمّى الشيوعية وموجة الانقلابات العسكرية التي سادت [أليس الفعل المضارع أدّق هنا؟] في الأوساط العربية بعد الحرب العالمية الثانية، هي التي أهدرت الفرص الحقيقية لإقامة ممالك مستقّرة في المنطقة، كما في العراق ومصر وليبيا والسودان مثلاً. ناهيك عن ذكر حقيقة أن تطلّعات الملوك وعلاقتهم مع الغرب الصناعي المتقدّم كانت على وفاق دبلوماسي الطابع محاط برغبة باكتساب الخبرات منهم والنهوض بالواقع المحلّي، حتى أنها صارت تهمة توجّه لهم [العمالة]. لكن هوس "التأميم" طغى ولعنة البترول على مايبدو لن تفارق هذه المنطقة في العقود القادمة.

نعود إلى السؤال: مالمشكلة مع الثورة؟

لكل بلد خليط متنوّع من أسباب ودوافع وجهات ومصادر طاقة مختلفة تشكّل نسيج مشاكله. لكن الحلول الهمجية والفوضوية هي سلوك نابع عن عجز في فهم المشكلة أو إيجاد حل لها. تخيّل الموضوع كفايروس ضرب الـ software للكومبيوتر وبحاجة إلى فرمتة وإعادة تنظيم. هل من المعقول أن تحطّم الجهاز بالمطرقة كي تنظّف الكومبيوتر من الفايروس؟ طبيعي سيختفي الفايروس من الوجود لو حطّمت جهازك لقطع صغيرة، لكن هل هذا حل معقول وعلى المدى البعيد؟ طبيعي لا!

الثورات هي أشبه بالمطرقة: سيختفي الفايروس، لكنك ستمسي دون كمبيوتر أصلاً. فكيف إذا كان جهازك أصلاً قديماً ومستهلكاً؟ الفوضى هي أرض خصبة للجهاديين والمتعاطفين معهم في مناطق الشرق الأوسط. عجزك عن إيجاد حل لا يعني بالمقابل أن الفوضى العارمة هي الحل. وإن كانت الثورة هي النار، فالديمقراطيات التي تنادي بها الجموع هي الوقود لفتيل الفساد! ألم نتعلّم بعد من نتائج الخريف العربي؟

علاج الواقع الخدمي و الاقتصادي لأي دولة من خلال #الثورة هو كـ معالجة الإنفلاونزا بالأشعّة السينية. أتفهّم الإحباط الذي يخيّم على أمّة مستضعفة و مجتمعات ضعيفة اقتصادياً و متأخّرة في السباق التقني، وهي تتشبّث برفات حضارات احتضنتها نفس الأرض قبل آلاف السنين، إلا أن الحل لا يكمن في استيراد ما تمخّض عن تجارب ودماء شعوب أخرى. ناهيك عن فقر المقوّمات التاريخية والاجتماعية لتطبيق أنظمة أجنبية على الواقع في الشرق. لا أتقصدّ إحباط المتابع العربي، خصوصاً الشاب، عندما أبدد كل آماله باستيراد ديمقراطيات الغرب. بل الخوف من تعميق الجرح هو ما أود تجنّبه، والتجارب في المنطقة تشهد على ما أقول. الفكرة هي أن كل مجتمع يحتاج لعلاج مناسب له و لتقاليده وثقافته بشكل عام، لا لعلاج مستورد. وهذه النقطة لا تفهمها الجموع المتحشّدة في الساحات. نعم، لا تعيها وفيضان العواطف يسيطر على قراراتها، مع أن غضبهم تجاه الواقع مشروع طبعاً. وصدّقني أنا استشيط غضباً عندما اقرأ أو اسمع عن أشكال الفساد في الأحزاب العراقية الإسلامية والمدنية المتذيّلة وكمية الأموال التي سرقت والثروات التي تباع وتهدر وحجم النذالة في خيانة الوطن من أجل العقيدة والمصالح الشخصية. لكن هذه المشاعر توظّف في التظاهر والعصيان، لكن عندما نبحث عن حلول، نحن بحاجة ماسة إلى التخلّي عن العواطف قليلاً والتخطيط بعقلية هادئة.

ما هي طبيعة المجتمعات العربية في التنظيم على المستوى الاجتماعي؟ هل هي هرمية؟ هل طبيعة الدين و التقاليد [بغضّ النظر عن صحتها أو خطئها] تدعم التنظير الديمقراطي فعلاً؟ هل التاريخ مع تطبيق مثل هذه الأنظمة؟ و السؤال الأهم: هل تظن فعلاً أن الفلسفة السياسية لا تقدّم سوى الديمقراطية كبديل؟ لأنك إن ظننت ذلك فعلاً، فحان الوقت لأن تعيد النظر بذلك. الآن أنت في حالة فوضى وبحاجة إلى استعادة النظام.

٣) استخدام وسائل النظام نفسه لإسقاطه ـ من مرحلة الفوضى إلى النظام

التظاهرات الميدانية مهمة للضغط على الحكومات الديمقراطية الشرعية، وهي وسيلة يمكن استخدامها لإسقاط هذه الأنظمة. وأحياناً من الإيجابي توظيف مشاعر الجموع الغاضبة لإسقاط الأصنام السياسية الدينية التي

استنزفت من عقلية المواطن الشرق ـ أوسطي كالكائن الطفيلي.

سأحاول الاختصار هنا لتفهم رؤوس الأقلام:

أ) تشكيل تيار سياسي مؤقّت يتكفّل مهام التالي:

ب) للتخلّص من ضغط المجتمع الدولي وهوسهم بإقحام كل دولة في معمعة الديمقراطية، نستخدم الوسيلة الثانية: الدعوة لانتخابات فورية تنظّمها الأمم المتّحدة أو تشرف عليها، تدعو الجماهير إلى تأكيد دعمهم لهذا التيار المتظاهر الذي لا يسمح لأي سياسي من النظام الذي سبقه بدخوله، وبالتالي حصد دعم الجماهير بشكل تفويض ديمقراطي يضفي شرعية شعبية لأي قرار يتخّذه التيار لاحقاً.

ج) الهدف الوحيد لهذا التيّار هو إعادة النظام الملكي أو الرئاسي وكتابة دستور جديد لم يكتب تحت ضغط المحتل ودول الجوار.

د) عدم إقحام العسكر أو المعممين في هذا النظام الجديد، والاعتماد على توحيد الرأي الإعلامي واستخدام الإعلام لإسقاط الإعلام الفاسد نفسه.

وهنا نكون قد اخترقنا النظام الديمقراطي الضعيف أمام الفساد والتظاهرات وبالتالي ننتقل إلى المرحلة التالية:

٤) ما بعد الاختراق

مع أنني ذكرت قبل لحظات عدم إقحام العسكر أو المعممين، لكن التكرار مهم خصوصاً في بلادنا التي مزّقها العسكر وأنهكها الصراع الطائفي الديني. علينا أن نتعلّم من تجارب الماضي وعِبر التاريخ، حتى في هذه اللحظات التاريخية المهمة.

دول الجوار لن تسمح بظهور دولة قوية، لذلك سنكون بحاجة إلى شخصية قوية رمزية تمثّل الجموع والشعب بشكل يستند على الجموع الشابة التي فوّضته ويحكم سيطرته على الفوضى بعقلية وقرارات شجاعة. سيكون إنجازاً كبيراً لو استرجعنا هسبة الملكية التي تليق بهذا البلد الذي شيّدت الملكيات في تاريخه العريق أعظم الحضارات منذ آلاف السنين ونسترجع مجداً غاب لعصور. الرمزية مهمة جداً في الحفاظ على هرمية المجتمع.

هذا النص العظيم للكبير الـ Sir Robert Filmer من كتاب فريد كتبه في منتصف القرن السابع عشر، يذكّر ثوريي زمانه أن العوام لا يمكن أن يكونوا قضاة أمرهم وأن الهرمية لا تستمر دون قدسية تحافظ على القانون وتقف فوقه، لا تخضع لهه.

"لا يمكن أن تكون هناك قوانين بدون سلطة عليا تشرّعها أو تصنعها. وفق هذا المفهوم، يجب في النظام الملكي، بل من الضرورة على الملك أن يكون فوق القوانين؛ حيث لا يمكن أن تكون هنالك جلالة له في ملكه إن خضعت نفسها للقانون؛ ما يعطي للملك قيمته ويجسّد رمزيته هو القدرة على تشريع القوانين؛ بدون هذه القوة فهو ملك ملتبس.

هذه الرمزية لا ترتبط بالطريقة التي يتربّع بها الملوك على عرشهم، سواء عن طريق الانتخاب أو التبرّع أو الخلافة أو بأي وسيلة أخرى؛ لأن السلطة العليا هي من تجسّد رمزيتهم كـ ملوك بشكل صحيح، وليست "الوسيلة" للحصول على التيجان.

[…]

إن جميع القوانين بليدة في جوهرها [حتى الدستور]، وبعضها يتطلّب الوثوق بتطبيقها بالتفصيل من خلال دراسة جميع الظروف، أو نطقها عند خرقها فقط، أو من قبل من.

إن فهم و إجادة أسلوب التطبيق الصحيح للقوانين ليس شيئاً سهلاً أو واضحاً بالنسبة للقدرات العادية، بل يتطلّب قدرات عميقة للطبيعة لاستدلال الحقيقة - وهو ما يعكسه أحياناً التنوّع وأحياناً أخرى التعارض بين آراء القضاة في بعض النقاط العسيرة.

وبما أن هذا هو الشرط الأعقل للقوانين، فمن المعقول أيضاً أن ينال المشرّع ثقة تطبيق أو تفسير القوانين، ولهذا السبب، فإن ملوك التاريخ قد تواجدوا شخصياً في محاكم القضاء، وما زالوا موجودين نيابةً في جميع المحاكم؛ القضاة هم ممثّلون يطبّقون قضاء الملك، وسلطتهم تنفد عندما يكون الملك في مكانه."

حاول أن تتفادى المغالطة الشائعة التي يقع فيها الكثير عندما يستخدمون ملكاً طاغياً في التاريخ كمثال كاف للاعتراض على الملكية. المهم هنا هي فكرة السلطة و شرعيتها و ضرورة الهرمية. لكنني هنا أحلم بالكثير ولا أتوقّع من الجميع فهم جوهرية الرمزية في المجتمع، لذلك سيكون النظام الرئاسي هو البديل الآخر.

ما بعد الاختراق يجب عدم تكرار أخطاء الماضي، منها:

١) اقتلاع الإسلام السياسي من المعادلة السياسية. هذا الشرط جوهري لا نقاش فيه. إلا إذا كنت أعمى عن نتائج الخريف العربي ومشاريع دمقرطة الشرق الأوسط الكارثية.

٢) استعادة الهرمية والتخلّص من الديمقراطية الضعيفة تدريجياً. سيكون ذلك سريعاً بإعلان الملكية، أو تدريجياً بإعادة كتابة الدستور وجعل الانتخابات الرئاسية محصورة على أفضل الشخصيات التي تقترحها نخب البلاد من الداخل أو الخارج. لاحقاً جعل الانتخاب ميزة اجتماعية سياسية يكاسبها المهتم والمتثقّف سياسياً عن طريق برامج تثقيفية بالأمور الاقتصادية والنظريات الجوهرية عن طريق الحصول على شهادات تسمح لأي شخص تجاوز هذه البرامج بالحصول على بطاقة انتخابية. لماذا؟ ارجع إلى الربع الأوّل من المقال [لماذا تفشل الديمقراطية؟].

٣) عدم الانصياع إلى السياسات التقدّمية واستيرادها مجدداً من الغرب، مع أنني لست ضد التعلّم من خبراتهم وقدراتهم التنظيمية أو الاقتصادية. تذكّر تاريخ بلدك القديم والعريق.

٤) التحالف مع من يمتلك رؤوس أموال كبيرة ومستعد لدعم هذا التغيير السياسي والتركيز على التحشيد الإعلامي. المال سلطة، إن لم تكن الأقوى في السياسة!

هذا المانيفست هو محاولة لرمي النرد والأمل بنتيجة إيجابية. وكتب من باب القناعة بواجب تجاه من نحب ونشاطر معهم الألم والغضب من الواقع المرير. كما قلت، خطة يمكن أن تطبّق بتعديلات تناسب ظروف كل دولة.


 
 
 

Opmerkingen


bottom of page