top of page

حلقات مع قوانين الملك حمورابي #1

  • سيف البصري
  • 10. Nov. 2019
  • 4 Min. Lesezeit

قبل كل شيء، ترتيب سريع للحقبة الزمنية لهذه القوانين:

شريعة حمورابي أو قوانين حمورابي هي مجموعة قوانين بابلية يبلغ عددها 282 مادة قانونية سّجلها الملك حمورابي سادس ملوك بابل (حكم من سنة ١٧٩٠ إلى ١٧٥٠ ق.م. أي تقريبًا قبل ٣٨٠٠ سنة!) على مسلّة كبيرة اسطوانية الشكل من حجر الديورانت.

عندما نفكّر في الملوك القدامى، فإن أفكار العدالة والإنصاف ربما لا تكون أول الأشياء التي تتبادر إلى الذهن. قد نكون نحن اليوم في عصر الحداثة [أو مابعدها] أكثر عرضة لتخيلهم كـ مستبدين متعطّشين للسلطة كانوا على استعداد لزهق روح أي إنسان في نزوة بينما كانت تخرج مظاهرات تطالب بحقوق الإنسان. إن كان هذا هو ما تتصوّره فعلًا، وهنالك الكثير من الـ SJWs من يمتلك هذه الفنطازيا، فأنت فعلًا ضحية لتصوّرات حداثوية تقدّمية ضيقة الأفق. وهذا شيء يحدث ومتوقّع في الوقت المعاصر. ولذلك أريد إحياء نظرة أقرب إلى الواقع عنهم، نظرة مستندة على نصوصهم التي نحتت على الحجر. ”أنا في الحقيقة الراعي الذي يجلب السلام، صاحب الصولجان العادل، ظِل خيري انتشر عبر مدينتي، أضم شعب أرضيّ سومر وأكاد في حضني بأمان“.

الملك حمورابي، والذي حكم بابل منذ ما يقرب من أربعة آلاف سنة، يجسّد تاريخيًا فكرة القانون والشرعية السمائية على الأرض والهرم الاجتماعي المتكامل. في زمن كانت المدينة هي شيء نادر في واقع البشر آنذاك. المدينة هنا تعني تعقيدًا اجتماعيًا جديدًا. فللمدينة نظام إداري للحكم فيها، وهذه الصفة شرط من شروط التعريف والتمييز عن القرى والبلدات الصغيرة. النظام الإداري فيها يعتمد على أجهزة حكم، قانون، وعسكر أو أفراد مفوّضين بتطبيق القانون. على عكس القرى والبلدات الصغيرة التي يعتمد النظام الإداري فيها على أنظمة اجتماعية مثل النظام العشائري أو الاتفاق بين سكان القرية. مدينة الوركاء أو أوروك [٤٠٠٠ ق.م، يعني قبل٦٠٠٠ سنة] في جنوب العراق تعد من أوائل الأمثلة على ذلك، ما أن تطوّر نظام حكم وظهر ملك فيها حتى أصبحت مدينة كاملة. لكن دعني أعقّب على فكرة القانون ولماذا كان قانون حمورابي آنذاك يمثّل نقلة تاريخية تترجم القانون الطبيي ألى البعد الاجتماعي الجديد [المدينة].

شرعية النظام الملكي، على عكس ما يفسّرها عشّاق الثورة، لا تنبع من مزاج الملك ولا تنتقل تلك فقط من قضيبه إلى ذرّيته. هنالك حلقة ذات قدسية ورمزية مغروسة في صلب الحضارات القديمة الأولى تبرّر الهيكلية الهرمية التي سادت لآلاف السنين ونجحت في الوصول بالبشرية إلى الألفية المعاصرة.

الملك يحكم، لأنه يجسّد شرعية السماء وهو مسؤول أمامها و مسؤول عن البشر. وأنا أتكلّم هنا بشكل ميثلوجي، لا بشكل علمي، لأن ما يهمني هنا هو فهم الوعي البشري القديم الذي زاوج بين الداروينية الهرمية وبين البعد الاجتماعي الجديد.

وهنا تجسّد مسلّة الملك حمورابي هذه الهرمية التي واجهت الفوضى في الوقت الذي كانت فيه تجمّعات المدن حديثة نسبيًا على التاريخ البشري.

يشهد الجزء اللاهوتي منها على إظهار الشرعية الإلهية لحمورابي كملك على شعبه. شرعية تجعله مسؤولًا أمام السماء كي لا يبطش في سلطته ورمزية ترتقي به أمام رعيّته لكي يقودهم ويحكم بينهم. فالمساواة في الكلمة والسلطة لا تؤهّل للفصل بين الناس.

فما تذكره النصوص هو أن إله المدينة [بابل] مردوخ قد دُعي من قبل كبيري الآلهة السومرية ـ الأكادية، آنو و إنليل ليحكم في مصير البشر؛ و هو ما جعلهم يختارون بابل كمركز للعالم آنذاك. و لكي يسود النظام و يوضع حدّ لإثم الظالمين وقمعهم وليعمّ الخير [لاحظ هنا أن مصطلح "الخير و الشر" قديم جدًا ولا ينحصر في الإبراهيميات كما قد يتخيّل للبعض]، تم اختيار حمورابي كملك ليحكم المملكة بالعدل.

لاحظ كذلك النحت أعلى المسلّة:

وفق بعض التفسيرات، يسلّم إله الشمس، الحقيقة و العدالة، شمش، رمز الحكم [الصولجان] إلى حمورابي. [هنالك تفسيرات أخرى ترجّح أن الإله هنا هو مردوخ، خصوصًا وأن هذا اللوح لم يكن فريدًا، بل وجدت عدة نسخ منه في مناطق أخرى في حوض النهرين].

هذه العلاقة بين السماء، الملك والشعب هي علاقة قديمة ومتجذّرة في ثقافات البشر وأديانهم التي تبعت، وخصوصًا في هذه المنطقة، المبتلية اليوم بوباء الدمقرطة. لكن هذه العلاقة تعكس في نفس الوقت جانبًا من وعي الإنسان، وتأقلمه مع الطبيعة والتعقيد الاجتماعي في علاقات البشر على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع. وبغضّ النظر عن إيمانك بالأساطير أو عدمه، هذه العلاقة التي ذكرتها [على عكس الديمقراطيات] شرعية تاريخيًا وقانونيًا كما يشهد أوّل قانون في العالم. قوانين حمورابي صنّفت إلى ١٢ قسمًا، القسم الأوّل من القانون يتعلّق بشيء جوهري: الحقيقة والقضاء كمشرّع للقانون. أعلى المسلّة لاحظنا أن الشرعية انتقلت من السماء إلى الأرض وكلّفت الملك بالنظام والمسؤولية على شعبه. الملك فوق القوانين، لا تحتها! وهذه نقطة جوهرية في الأنظمة الملكية!

المادة ١: "إذا [شرطية] اتهم سيّد سيدًا وأقام عليه دعوى بالقتل لكنه لم يستطع اثباتها فإن المتّهم يُعدم." المادة ٣: "إذا أدلى سيّد بشهادة كاذبة في دعوة ما، ولم يثبت صحّة الكلمات التي نطقها، فإن كانت تلك الدعوة تتعلّق بدعوى حياة، فإن ذلك السيّد يُعدَم"

فالاتهام الكاذب بالقتل يؤّدي بصاحبه إلى الموت، ولذلك كانت للحقيقة الشهودية testimonial truth أهمية جوهرية في ترسيخ العدالة القانونية وتثبيط رادع لأي محاولة للتلاعب بهذه القوة بعقوبة الموت. وعقوبة القاضي الذي يغيّر الحكم لقاء رشوة، هي تحمّل عقوبة الدعوى ودفع ١٢مثلهًا. وهنا رقابة القانون لا تستثني حتى القضاة أنفسهم. الحقيقة هي معيار حاسم في الفصل بين الناس، وهي في نفس الوقت مسؤولية عظيمة تقرر مصير أرواح من البشر. وربما من هذه الزاوية نستطيع فهم أهمية الشرعية السمائية آنذاك لتعزيز موقف الفصل وشرعية القضاء. بينما لو قارنتها مع شرعيات الدساتير المعاصرة، فهي مجرّد قوانين يتفق عليها مجموعة من البشر المتخصصين. شرعيتهم مهما كبرت لن تصل إلى بعد سماوي محايد كما تجسّد في صورة انتقال السلطة من الآلهة إلى الملك. الباقي يتبع في الحلقات القادمة..

Comments


bottom of page